من دون شك ، وكما يقر بذلك العديد من الباحثين والدارسين أن المغرب عرف ركودا فكريا وفلسفيا بالخصوص ، استغرق زهاء سبعة قرون ،أو كما يسميه الفيلسوف المغربي ” محمد المصباحي ” بنضوب الزمن الفلسفي فيه ،بمعنى أن الفلسفة كانت تعيش في سبات عميق منذ عهد ” ابن رشد” الذي يمثل نهاية تاريخ فلسفي طويل ، إلى منتصف القرن الماضي ، و أصبحت بذلك في حاجة إلى من ينفخ فيها الروح من جديد ، على أمل التأسيس لمرحلة جديدة أكثر إشراقة وعطاء ، وفي واقع الأمر لم تكن الظروف تسعف لانبثاق أو لانبعاث فكر فلسفي جديد في المغرب الا مع مطلع الخمسينيات من القرن الماضي على يد الفيلسوف المعروف ” محمد عزيز الحبابي” ، ليكون بذلك هذا الفيلسوف الفذ أول من زرع بذور الفلسفة والتفلسف في المجتمع المغربي بعد قرون عجاف كما أسلفنا الذكر ، ورغم المجهودات الكبيرة التي بذلها هذا الفيلسوف في هذا المضمار ، لكنه اصطدم بكثير من الاكراهات التي وقفت حائلا بينه وبين نشر هذا النمط من التفكير أي الفلسفة في المجتمع المغربي الذي يبدو بعيدا جدا عنه بشكل كبير ، ونخبته المثقفة على قلتها في ذلك الإبان لم تستطع اقتحام هذا المجال ، الشيء الذي يفسر عدم وجود مجتمع فلسفي في هذا الزمن الذي كان فيه الحباني يضع الأسس واللبنات الأولى للفلسفة والإنتاج فيه ، ففضلا على أن المجتمع المغربي كان نتيجة للعديد من العوامل المتراكمة عبر التاريخ غريبا عن الفلسفة وغريبا عن مساهمة الفلسفة في نسيجه وتطوره الفكري ، ولم يكن مستعدا في دمج في هذا الميدان فيه ، وبالتالي يبدو أن الظروف كانت غير مهيأة تماما للإنتاج الفلسفي ، مما جعل من الضروري الانتظار حتى اختمرت ونضجت الظروف المناسبة لذلك ، وهنا لا بد من الاعتراف بالدور المهم الذي لعبه ” الحبابي ” في هذا الخصوص بدون منازع ، وبشكل خاص دوره الريادي في تأسيس التعليم الجامعي المتخصص في الفلسفة ، وأسس بذلك شعبة مستقلة خاصة بها التي تخرج منها عدد لا يستهان به من الفلاسفة المغاربة الذين أثروا مجال التأليف الفلسفي ، وجعلوا بذلك الفلسفة في المغرب تشق طريقها بثقة وثبات على درب التقدم والتطور ، ووصل صدى كتاباتهم وإبدعاتهم إلى خارج المغرب ، ولما بدا “للحبابي ” أن هذا كله على أهميته ليس كافيا لتثبيت دعائم الفلسفة في المجتمع المغربي ، بادر إلى التفكير في تكوين مجتمع فلسفي يكون بمثابة نواة للإنتاج والتلقي ، كما بدا له أنه لا يمكن تطوير الفكر الفلسفي داخل مجتمع معين دون تعميم الانتاجات الفلسفية في نفس الوقت ، ولهذه الغاية سعى إلى تأسيس مجلة ” دراسات فلسفية ” لتقريب الفلسفة لفئات عريضة من هواة الفلسفة وغيرهم ، هذا ناهيك ، ولتحقيق نفس الغاية ، العديد من الندوات والمحاظرات التي أشرف عليها والتي كانت جلها تحت غطاء الجمعية التي كانت يترأسها إلى حين وفاته ، هكذا عزم ” الحبابي ” على دخول غمار الفلسفة في مجتمع كانت صلته بتاريخه الفلسفي قد انقطعت ، في حين أن قضايا الزمن المعاصرله كانت مطروحة ضمن سيرورة فلسفية أخرى هي التي كانت قد عرفت انطلاقتها في أوربا منذ عصر نهضتها ، ولذلك يمكن القول أن الحبابي الا تكون فلسفته مجرد استمرار للتراث الخاص ، وقرر الاندماج في الواقع الفلسفي العام لزمنه ، يقول الفيلسوف ” محمد المصباحي ” في تعبير قوي عن هذا التأويل ، ما يلي : ” لقد أبى الحبابي الا أن يضع الخطاب الفلسفي في المغرب في أفق جديد بلغته ومضمونه ورهاناته ، فإذا كان العقل النظري هو الذي طغى على الفلسفات العربية القديمة ، فإن الحبابي فضل أن يمارس الفلسفة في معترك العقل العملي ، فالانسان أوالشخص أو الأنا ، لا يتم إثباته انطلاقا من أحد عناصر الوجود ، أي عبر كوجيطو مجرد يسبق فيه الفكر الوجود ويؤسسه ، بل يتم ذلك من خلال كل فعاليات الوجود البشري بغض النظر عن الأساسي والهامشي فيها “. وبقدر ما كان هذا الفيلسوف ” محمد الحبابي ” شغوفا بالفلسفة وشهيته مفتوحة بشكل كبير في التأليف فيها ، بقدر ما حاصرته جملة من الإكراهات ، ومنها بالتحديد المزاوجة بين التدريس والكتابة ، وكيف يمكن التوفيق بينهما ، وهناك من مجايليه أو ممن تتلمذوا على يديه الذين لاحظوا تأثيرا واضحا لوظائفه الرسمية على منسوب ومردود الكتابة والتأليف لديه ، أو نقص في وثيرة الإنتاج الفلسفي عنده ، فبعد صدور كتابه عن الشخصانية الإسلامية سنة 1964، لم يصدر له كتاب يعبر عن مذهبه الشخصاني الا سنة 1980 .عقدان من الزمن تقريبا من المسؤوليات الوظيفية والتدريسية لم تساعد الحبابي على الاسترسال في التأليف ، وكان لذلك تأثير واضح على المسار الفلسفي لهذا الرجل ، وعلى العموم إذا كان الأستاذ الحبابي قد ساهم في عودة الفلسفة إلى الفضاء الفكري المغربي وناضل وقاوم من أجل استنباتها بشكل يصعب اجتثاثها ، وأرسى دعائمها ، وجعل لها شعبة مستقلة في الجامعة المغربية ، فإن كل ذلك تأثيراته الإيجابية وثمارها الطازجة ستظهر بعد أن برز إلى الوجود فلاسفة أخرون يحملون مشعل الإستمرارية ، فئة منهم جاءت كتاباتهم استجابة لحاجيات تربوية أو لدواعي نظرية ، وبعد ذلك أصبحت هناك استقلالية في التفكير لديهم ، زاد من إثرائها مساهمات بعض المؤلفين الذين تلقوا تكوينات مهمة في بعض الدول العربية ، أو في بعض الجامعات الأوربية ، وبهذا الشكل بدأت تتشكل معالم حقل فلسفي مغربي خالص ،الذي سيعرف طفرات نوعية بظهور أسماء وازنة من قبيل ” عبدالله العروي” خريج الجامعة الفرنسية والقادم إلى الفلسفة من مهنة المؤرخ ومن باب التفكير في التاريخ واقعا وعلما في الوقت ذاته ، و“عبدالكبير الخطيبي” خريج أيضا الجامعة الفرنسية والنافذ إلى المساهمة في تطوير الفكر الفلسفي منطلقا من مهنة عالم اجتماع ، ثم ” علي أمليل “الذي تلقى تكوينه في القاهرة أولا ثم فرنسا ، و” محمد عابد الجابري ” خريج قسم الفلسفة بالجامعة المغربية ، كل هذا الفسيفساء وهذه الأسماء ساهمت بشكل كبير في إثراء التأليف الفلسفي الذي لم يسر بالضرورة في الاتجاهات الأولى التي رسمها الحبابي ، مستلهمة تيارات فلسفية أخرى مستجيبة لمقتضيات واقعية مختلفة . وما سيعطي نكهة خاصة للحقل الفلسفي المغربي ويزيد من إغنائه والدفع به خطوات كبيرة إلى الأمام هوالمساهمات القيمة التي كان وراءها فلاسفة عرب بصموا هذا الحقل بإبداعاتهم وتأليفاتهم ، نذكر على سبيل الذكر لا الحصر كل من “نجيب بلدي ” و” علي سامي النشار ” من مصر ، و كذلك ” هاشم حكمة” من سوريا ، هذا دون أن نغفل الدور الذي لعبه بعض الأساتذة الفرنسيين في هذا الإطار أمثال “فيراري وشونو” ، لقد كان جزء من التأليف الفلسفي بالفرنسية ، وكان هؤلاء جزء منه .
من نافلة القول أن ظهور أو انبثاق الفكر الفلسفي في المغرب بعد قرون من الركود يعود فيه الفضل من دون شك إلى الأستاذ “محمد عزيز الحبابي ” الذي مهد الطريق للملتحقين به إلى تشكيل معالم حقل فلسفي مغربي ، الذي لازال العطاء مستمرا فيه رغم كل مظاهر التضييق على هذا الحقل .
![]()

تعليقات ( 0 )