أعدت قراءة بلاغ الديوان الملكي عشرات المرات مباشرة بعد انتهاء أشغال المجلس الوزاري لفهم الإشارات والدلالات العميقة والتدقيق في المنحنيات والتوجهات لاكون فكرة عن الهدف الأساسي من البلاغ في وقت تتصاعد فيه وثيرة الاحتجاجات على الواقع الصحي والتعليمي وارتفاع وتشعب الفساد في أجهزة الدولة واستوقفتني كثيرا تلك الفقرة الملتبسة التي تستدرج الشباب وتحفزهم على دخول غمار الاستحقاقات الدستورية لكن شرط ما تحت 35 سنة استفزتني كثيرا رغم التسهيلات والتطمينات والمساعدات المالية لتمويل الحملات الانتخابية .
فالنظام الانتخابي في المغرب مليء بالثغرات والطريقة التي تتم بها المراقبة والسهر على فرز الأصوات واعلان الفائزين من طرف السلطات المحلية والاقليمية أبانت عن فشلها لان مسلسل الفساد وهندسة الخريطة الانتخابية وفق التصورات والتوجهات المسبقة لا تسعف في تحقيق تطلعات الشباب وهنا يطرح بحدة مسالة الإصلاح برمتها التي تروم الدولة تحقيقها باليات وأجهزة متقادمة انتجت على مر السنوات نخبة سياسية مطاطية هجينة لا تعكس تطلعات الشعب ولا تستجيب لمطالب الفئات الاجتماعية التي تعاني الفقر والاقصاء الاجتماعي ولا داعي لسرد التلاعبات التي ترافق العملية الانتخابية وتدخلات المال.
فمحاولة استدراج الشباب للانخراط في العملية السياسية يعكس قطعا مدى الارتباك الحاصل لدى النخبة السياسية والحاكمة من الحركات الاحتجاجية ولا يكفي طرح مشاريع أحلام فضفاضة وتصورات تحتاج الى نقاش معمق وضمانات قانونية وادارية وتنظيمية للتفاعل المسؤول،
فالمطالب الشعبية للحراك الاجتماعي تفضح مؤسسات عمومية عاجزة عن تقديم خدمات للطبقات الكادحة وتشير صراحة الى ازمة الصحة والتعليم وتغول الفساد وهي مطالب لا تقتصر على فئة الشباب بل تمتد لتشمل باقي الطبقات الكادحة، فبدل ان تسطر وتخرج المطالب الشعبية من القاعدة خرجت من القمة بمعنى التعامل مع الهرم المقلوب، فالاملاءات الفوقية لم تكن ابدا بالنجاعة المطلوبة.
هناك من يرى ان بلاغ الديوان الملكي مكسب لانه جاء في الوقت المناسب لاحداث تغيير يلبي جزءا من المطالب الشعبية، وهناك من يراه محاولة الالتفاف على اسباب الاحتجاج وحصرها في الاستحقاقات الدستورية، وهناك جهة ثالثة ترى أن الأمر لا يعدو عن كونه طريقة للمناورة للهروب إلى الأمام ومحاولة تلطيف الأجواء وامتصاص غضب الشارع، وهناك توجه رابع يعتقد أن البلاغ يترجم توجهات الخطاب الرسمي في ضرورة تجديد النخب السياسية وتشبيبها وفتح الباب أمام الشباب للتواجد في المؤسسات الدستورية لتمثيل الساكنة وهذه الاخيرة لا يمكن ان تتفاعل مع شباب بدون خبرة ولا تجربة ولا يملك من الادوات سوى شواهد جامعية وتمويل الدولة الذي سيخلق له طبعا مفرملا حقيقيا بل ان التمويل سيدفع الطامعين والحالمين للانخراط في العملية ليس حبا في السياسة ولا تمثيل الساكنة وخدمة الصالح العام بل للاستفادة من المبلغ المادي المغري الذي قد يصل إلى 50 الف درهم للترشح في الجماعات الترابية و500 ألف درهم للترشح إلى البغلمان بدون حاجة إلى تزكية من الأحزاب السياسية التي تبحث عن ( مول الشكارة) الذي يضمن المقاعد ويفهم في الولاءات والتبعية .
فالتوجه العام في بلاغ الديوان الملكي مفعم بالإرادة القوية في الإصلاح والتغيير لكن هناك عائق كبير وحاجز يجب هدمه في العقلية الشبابية ذلك المتعلق بالعمل السياسي الذي لم يعد يستهوي ويغري الشباب لان الأحزاب السياسية في الوطن شاخت ولم تعد مدارس للتأطير والتثقيف والتفكير السليم بل تحولت إلى ملكيات عائلية لزعامات ميتة تنتج الإعاقة والكولسة و تعمل على تطهير الفكر المتقدم و الإصلاحي وتضرب في العمق الديمقراطية الداخلية والتداول على المسؤولية إلى جانب أسباب متعددة لا داعي لسردها، كما أن التوجه الحكومي يحاول حصر الإشكال السياسي للشباب في المسالة المادية وهذا طرح يعكس الفهم القاصر للفكر الشبابي الذي يبحث عن العمل القار الذي يضمن العيش الكريم ما قيمة انتماء عاطل عن العمل و دور اصحاب الكفاءات في الجماعة الترابية اعزل خاوي الجيوب وبدون مصدر دخل فهذا يعني انه لن يكون حرا في التفكير والتصرف والدفاع عن مطالب القوة الناخبة بل سيكون سهلا للاصطياد من طرف لوبيات الفساد السياسي عبر الاغراءات وغيرها من وسائل الاستمالة.
فالديمقراطية المتغنى بها في الوطن مند عقود مجرد شعارات جوفاء فارغة بدون قيمة في علاقتها بالواقع المعيشي ولا يمكن قياسها بدفع الشباب إلى المعترك السياسي بدون تسليح ولا ضمانات قانونية وإدارية وتنظيمية بتطهير الأحزاب من الشيوخ والعجزة لتجديد النخب ليكون هناك حافز والطموح المشروع.
تم أن الإصلاحات المنشودة لا يمكن حصرها في السن ولا في الإعانات المالية –التي يمكن اعتبارها ريع انتخابي– ولا تسهيل عمليات الترشح للاستحقاقات الدستورية بل في الإصلاح الإداري العميق وتجدير الشفافية والنزاهة في مؤسسات الشعب لمحاربة كل أشكال الفساد والتربح غير الشرعي باستغلال مناصب المسؤولية لمراكمة الثروات وترك صناديق جماعات ترابية ومؤسسات عمومية قاعا صفصفا بدون محاسبة عبر إشراك الجمعيات الجادة والمسؤولة في ملاحقة المفسدين وجرهم إلى المحاكم بدل وضع العراقيل والقوانين المجحفة لحماية رموز الفساد كما حصل مع جمعية حماية المال العام وباقي الجمعيات المشتغلة في المجال التي تعمل لمصلحة الوطن بفضح العمليات المشبوهة التي تستهدف المال العام وتستهدف في نفس الوقت استقرار الوطن وإشاعة روح الثقة في أجهزة الدولة.
ان بلاغ الديوان الملكي من زوايا متعددة بدعوة الشباب للانخراط في العمل السياسي جاء في الوقت المناسب ويفهم منه انه يروم تطهير الحقل السياسي من عشرات الأسماء التي عمرت طويلا في المشهد الحزبي وحان الوقت لتستريح لان المرحلة بحمولاتها الفكرية والعلمية و التكنولوجية المتطورة في التواصل تجاوزتها وعليها أن تغادر في هدوء وتفسح المجال للطاقات والكفاءات الواعدة للمساهمة في تنمية الوطن.
والإصلاح أيضا لا يمكن تحقيقه بأدوات وخطابات متقادمة والإصلاح الذي نطمح اليه يبدأ بفتح النقاش على ما نريد وما يجب فعله للرقي والتقدم والازدهار لتجاوز الإكراهات و المطبات بدون إملاءات ولا فرامل ولا تجييش للاتباع والخزانات الانتخابية ولا معيقات بسبب الاختلاف الفكري والمذهبي والسياسي.
![]()
