لا يغرب على كل باحث أو دارس للتراث العربي الإسلامي أن صاحب مقولة : ” لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم ؟” صاحبها هو الكاتب اللبناني الشهير “شكيب أرسلان ” ، وبعد ذلك أصبحت هذه العبارة عنوانا لكتاب قيِّم ونفيس يشرح فيه هذا الكاتب أسباب تقدم الغرب وتأخر المسلمين من وجهة نظره، ويبين باختصار شديد أن ارتقاء المسلمين في الماضي ، إنما يرجع إلى الإسلام ، ويوضح أنه إذا فحصنا ذلك ، وجدنا أن السبب الذي استقام به المسلمون سابقا ، قد أصبح مفقودا بلا نزاع ، وإن كان بقي منه شيء ، فهو كباقي الوشم في ظاهر اليد ، هذا فضلا عن نشوء العصبيات والقبليات ، والآثار التي تترتب عنها من انحراف فكري ، وفساد بعض مناهج التعليم والخلل والاجتماعي ، الشيء الذي يفرض من منظاره لتقويم كل تلك الاعوجاجات، وبالتالي علاج هذا التخلف من جذوره ،العودة الصادقة للإسلام ، ومنها العزة والاستقلال والتخلص من الهزيمة النفسية وعودة دور العلماء في المجتمع وتسلمهم دور القيادة في المجتمع .
نحن في هذا المقام وإن قدمنا بعض تصورات وأفكار النهضة عند هذا الكاتب والتخلص من التخلف ، والتي يمكن أن نقبلها في السياق الذي أتت فيه ، والتي أيضا قد تكون جوابا مقنعا لسؤال التخلف في المرحلة التي عاش فيها “أرسلان “، ليس الغرض من ذلك هو وضع هذه الأفكار تحت المجهر وما إن كانت هي السبيل الوحيد الذي يمكن أن ينتشل المجتمعات العربية من براثين التخلف أم هناك أفكار أخرى وتصورات أخرى أكثر فاعلية ونجاعة من هذه التي طرحها أرسلان وتشبت بها الكثير من الباحثين والدارسين وعضٌّوا عليها بالنواجد، إلى درجة أنه يصعب معها الحديث عن تخلف العرب والمسلمين وتقدم الغرب دون ذكر إسم ” شكيب أرسلان ” وأطروحاته وأفكاره في هذا الشأن ، وإنما الغرض هو توضيح أولا ما مدى استقامة هذه المقارنة بهذا الشكل الذي تطرح به وبالشكل التي يتم الترويج لها ، بحيث نجد الكثير من المفكرين غربيين وعرب الذين يعتبرون أن هذه المقارنة من حيث المنطلق غير منطقية البتة، فهي في اعتقادهم ليست الا مقارنة استشراقية فاسدة كما يذهب إلى ذلك الاقتصادي الفرنسي الشهير “شارل بتلهايم 1913/2006،وغيره ” ،الذي يقول أنه لا يجوز ولا يصحٌّ عقد مقارنة بين مختلفين ، ذلك أن نهضة وتقدم الغرب لم يتمَّا الا بسبب تخلف ضحاياه ومستعمراته ، فالعلاقة إذن هي بين مستعمِر ومستعمَر ، لا بين متقدم ومتخلف ، يشخّص “بتلهايم “الصورة في منجم يتعمق استغلاله (العرب والمسلمون ) وعمارة تتعملق من ترابه (الغرب ). ورغم أن الوعي بعدم جدوى وجدية ومصداقية هذه المقارنة لم يحصل الا بشكل متأخر وخاصة مع بدايات القرن العشرين ، حيث أصبح البحث عن أسباب وعوائق التخلف في مكامن مواطن أخرى ودون العودة إلى سؤال” لماذا تأخر العرب والمسلمون وتقدم الغرب ؟“، ظهرت في هذا السياق محاولات إصلاحية اضطلعت بها بالتحديد ما يمكن تسميته ” بالطبقة الوسطى الإصلاحية والنهضوية العربية ” وأبرزها كان ” رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وطه حسين وغيرهم ” وهذه المحاولات تمت في ظل الرهان على النهوض في ظل الاحتلال ، وثبت الزمن رغم زخمها وقوة أفكارها وجدارتها أنها محدودة الإمكانيات وقاصرة الأهداف ، بل ومستحيلة الإنجاز ، إذ لا تنمية شاملة ، ولا ديموقراطية ناجزة ، في ظل الاحتلال والتبعية ، فتبين أن لا نهضة ولا تقدم تحت مظلة الاستعمار ، لقد انتهى ” محمد عبده ” على أهميته إلى التماهي مع الاستعمار ، وفي المقابل انطلق ” طه حسين ” من منطلقاته الحداثية وما كان متشبع به في هذا الاتجاه ، وكانت النتيجة والحصائل في الختام جد محدودة وفقيرة المردودية ، واحتاجت إلى مبادرات أخرى لاحقة للطبقة الوسطى الصغيرة للرهان على رأسمالية الإدارة والذي كان عموما مأساويا إلى الآن ( جمال عبد الناصر ، بومدين ، صدام ، القذافي ..) لقد كان عطب الطبقات الوسطى والصغرى العربية الرئيسي ، هو استيلابها الفكري والسياسي للنمط الرأسمالي الغربي في النهوض والتقدم والديموقراطية ، سواء في مرحلة الاستعمار التقليدي الأوربي ، الذي يمكن القول أن المجتمعات العربية والإسلامية قد تحررت منه جزئيا ، أو الاستعمار الجديد الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية ، إنه نمط التفكير الاستشراقي الأطلسي الجديد الذي يعيد إنتاج الرهان على النهوض في ظل الاستعمار ، قديمه وجديده ، وفي الحالتين يُقترف خطأ جسيم ، لا مجال للتكرار والتقليد في التاريخ ، لا إمكانية للانطلاق من حيث انطلق الغرب الرأسمالي ، لا مجال لتقليده ومسايرته ، بل فقط الانطلاق من حيث انتهى إليه ، لا من حيث انطلق وسار ، وذلك باجتراح نهج خلاق وخيال ابتكاري ورهان مستقبلي مستقل وجديد.
وصفوة القول أنه لا يمكن تصور تقدم المجتمعات العربية والإسلامية في ظل الاستعمار ، حاولت ذلك تحت هيمنة الاستعمار الغربي الأوربي الذي يسمى بالاستعمار القديم ، وحاولت النخبة المثقفة والمتنورة كل من موقعها و خلفيتها و مرجعيتها ، وقدمت في ذلك مبادرات كثيرة ومتنوعة ، على وضع هذه المجتمعات على السكة الصحيحة ولم تفلح ، ثم اليوم تحاول أيضا، في ظل الاستعمار الجديد (الناعم) الذي يكرس التبعية للغرب بزعامة الولايات المتحدة (النيو امبريالية)، ومن دون شك لن تستطيع التقدم وبناء دول وطنية مستقلة وقوية قادرة على التأسيس لنظام ديموقراطي حقيقي، والواقع إذا كان هذان الاستعماران حقيقة يشكلان حجرة عثرة أمام تقدم ونهضة الشعوب العربية والإسلامية ، وإذا سلمنا جدلا أن هاذين الاستعمارين عملا على نسف كل المبادرات الحقيقية التي كانت تسير في هذا الاتجاه ، لكن هذا لا يمكن أن ينسينا عاملا آخر وهو السلطة التي تحكم هذه الشعوب ، التي بيدها زمام الأمور والتي ربما تجد في هذا الوضع الاستعماري مناخا مناسبا للحفاظ على استمراريتها وامتيازاتها وتثبيت دعائم هذا الوضع وعدم فتح المجال لترسيخ ثقافة سياسية حقيقية تنبثق من أعماق المجتمع وتنحاز إليه هذه الطبقات الحاكمة هو ضرب في الصميم لأي محاولة للتقدم والتطور سواء السياسي أو الاقتصادي ، وهذا ما يتطلب من الطبقة الوسطى النهوض من جديد لإنجاز ما أنجزته بورجوازية الشمال الأوربي والغربي ، وتحالف المثقفين والمناضلين لا تجارا ،وعموم الفلاحين والكادحين والعاطلين لتأسيس جبهات داخلية قادرة على إعادة تشكيل المشهد السياسي في هذه المجتمعات على أسس ديموقراطية حقيقية ، ربما ستجعل هذا الاستعمار يعيد ترتيب أوراقه تجاهه ، لأن الشيء الوحيد الذي يقهر الاستعمار كيفما كان نوعه هو إرادة الشعوب .
تعليقات ( 0 )