لعل من أبرز وأهم عناصر الاستقرارالتي اعتمد عليها المغرب سواء في القديم أو حديثا هو البحث دائما عن التوازن ، ليس على المستوى السياسي وحسب ، بل على جميع المستويات ، ومنها بشكل خاص التوازن الديني ، قد يبدو الأمر غريبا للوهلة الأولى ، بحيث كيف يمكن أن نتحدث عن التوازن الديني ، والكل يدين بدين واحد وهو الدين الإسلامي ؟ وهذا السؤال وجيه ، لكن ليس المقصود بالتوازن الديني هاهنا الدين المعتقد ، بل المقصود ، هو كل تلك التفرعات التي تتفرع عن هذا الدين من مذاهب فقهية مثلا وجماعات دينية وزوايا وما إلى ذلك ، فالدين الإسلامي لم يكن يوما يحمل في طياته مشاكل لأي مجتمع كيف ما كان نوعه ، بل على العكس من ذلك تماما ، فالمشاكل تأتي من المتدين وليس من الدين وبعد ذلك وهذا هو الأهم والخطير تأتي من بعض الجهات التي تريد استغلال هذا الدين لغايات معينة ، وفي هذه الحالة الدولة لا يمكن أن تبقى مكتوفة الأيدي أمام كل ما يجيش ويعتمل في هذا الحقل على اعتبار أنها هي الضامنة للأمن الروحي للمجتمع ، وهي التي تتحوز وتمتلك الآليات والأدوات المساعدة على ممارستها لسلطتها الدينية والتحكم في هذا الحقل المهم والحساس وضبط تمفصلاته المتشعبة ، وبالتالي تجدها دائما تنهج سياسة دينة مقننة وتسلك استراتيجيات محددة حتى لا تنفلت الأمور من بين أيديها ، خاصة ونحن نعلم أن هناك أطراف عديدة في المجتمع لديها رغبة جامحة وشهية كبيرة للاستحواذ على هذا الحقل والسيطرة عليه واحتكاره ، وتعتقد أنها هي التي تمتلك الحقيقة الدينية وليذهب الآخرون إلى الجحيم ، وهذا التوازن الديني الذي نتحدث عنه والذي تراه الدولة مناسبا ، قد لا يعمر طويلا ، فحينما يستنفذ هذ التوازن أغراضه وتنتهي مرحلته وأدواره ، يتم التفكير في إعادة تشكيل المشهد من جديد والبحث عن عناصر توازن أخرى ، فالعنصر الذي قد يكون لعب دورا مهما في مرحلة من التوازن سابقا ، قد يعود أدراجه ولن يبقى له دور يلعبه في المرحلة الموالية ويمكن أن ينسحب من الساحة نهائيا . وإذا أردنا أن نلقي نظرة تاريخية عن بدايات تفكير الدولة في إحداث هذ التوازن الديني في المجتمع ، فلا بد من التذكير أولا على أن الدولة في فترات تاريخية بعيدة ومتفرقة لم تكن تفرض هذا التوازن من فوق ، بل كانت تأخذ صراعات حقيقية بينها باعتبارها تمثل الدين الرسمي للبلاد وبين ما يسمى بدين العموم ، وهذا ما حدث في النصف الأخير من القرن الثامن عشر حينما اشتد الصراع بين الزوايا والسلطة المركزية حول النفوذ الديني ، إذ مقابل ظهور المنافسة السلطوية للزوايا ، معتمدة على منهج السلفية ، لجأ المركز إلى امتدادات الحركة الوهابية متمثلة في بعثات العلماء ، خلال مواسم الحج من العربية السعودية ، وكان أول سلطان مغربي وظف الوهابية كوسيلة لكسر الشعبية الدينية للزوايا هو ” المولى سليمان 1792/1822″وذلك لتحقيق توازن ديني في المجتمع الذي كان تحت سلطة الزوايا ، وهكذا عمل هذا السلطان على تبني انتقادات الوهابية للزوايا وللممارسات الدينية المنحرفة التي كانت تمارسها المتصوفة والطرقية ، الأساس التنظيمي الذي تعتمد عليه الزوايا ، لكن المفاجأة كانت حينما انهزم السلطان أمام الزوايا نتيجة دعمه اللامشروط للفكر الوهابي والإيديولوجية الوهابية للانتشار في ربوع البلاد ، ظنا منه أنه سيحقق ذلك التوازن الديني الذي يطمح إليه ، لكنه فشل في ذلك فشلا ذريعا ، ولقد تطورت الأمور في هذه المرحلة التاريخية بالذات ، وتحولت معه إلى صراع من أجل التوازن الديني إلى صراع سياسي حقيقي بين الطرفين ، الدولة الرسمية والزوايا ، انتهت في النهاية إلى مصالحة دينية بين طرفي الصراع ، اعتمدت إقامة توازن سياسي بين الإسلام الشعبي ممثلا في الزوايا والإسلام الرسمي ممثلا في الوهابية . وحتى في الفترة الاستعمارية لم تختف مسألة إحداث هذا التوازن الذي نتحدث عنه ، فالمعمر الفرنسي ما فتئ يذكي نفس الصراع بين الوهابية والزوايا لضبط خيوط اللعبة لتحقيق أغراضه الاستعمارية ، ومع بزوغ فجر الاستقلال وخاصة مع بداية السبعينات والثمانينيات ، بدأت تظهر إلى الوجود جماعات إسلامية متمثلة في السلفية الراديكالية وضعت نصب أعينها احتكار المجال الديني ، وأبانت عن أطماع أخرى ، ونخص بالذكر هنا كل من جماعة العدل والإحسان ، والتوحيد والإصلاح ، والشبيبة الإسلامية ، ولما بدأ نجم هذه الجماعات يسطع في سماء الحقل الديني ، وجدت الدولة نفسها أمام ضرورة إحداث توازن جديد بمقومات جديدة ، فلم يكن الحل سوى في السلفية الوهابية دائما ، حيث فتحت الدولة المجال للفكر الوهابي في التغلغل في هذا المجال ، مستفيدا من الدعم الكبير الذي جعلته الدولة رهن إشارته على جميع المستويات ،ليقول لتلك الجماعات أنكم لستم الوحيدين الذين تمثلون السلفية الراديكالية في هذا البلد ، فعرف هذا الفكر أزهى أيامه في مغرب السبعينيات والثمانينيات ، فشكل بذلك منافسا قويا لتلك الجماعات الدينية المغربية التي سبق ذكرها ، مما أدى إلى تحجيم أدوارها والتقليل من صداها ومنسوب إزعاجها للدولة ، لكن السؤال العريض الذي ينطرح الآن هو ماذا سيقع بعد أحداث 11شتنبر الشهيرة وبعدها مباشرة أحداث 16 ماي ، هذان الحدثان بالضبط سيشكلان نقطة تحول كبيرة في تعامل الدولة مع السلفية الوهابية وستنقلب الأمور رأسا على عقب ، وسيتمخض عن ذلك خريطة دينية جديدة لم تكن في الحسبان ، منها أولا إخراج هذه السلفية من الحقل الديني المغربي نهائيا ، وثانيا إدماج هذه الجماعات الإسلامية في اللعبة السياسية عدا جماعة العدل والإحسان في إطار ما يسمى بالإسلام السياسي ، مؤسسة بذلك أي الدولة لتوازن جديد هذه المرة بينها وبين هذه الجماعات ، جماعات الإسلام السياسي ، فلماذا تخلت الدولة بهذه السهولة عن السلفية الوهابية وأقصتها من المشهد الديني ، وهي التي كانت دائما تلتجئ إليها كلما أرادت إحداث توازن ديني أو سياسي في المجتمع ؟ إن السبب الرئيس الذي دفع الدولة المغربية إلى اتخاذ هذا الموقف حيال السلفية الوهابية ،هو اتهامها بأنها هي المسؤولة أو هي أساس التطرف الديني الذي أدى إلى تفجيرات 11شتنبر بأمريكا ، وتفجيرات 16 ماي بالدارالبيضاء ، وهي المحرضة الإيديولوجية رقم واحد على ذلك ، ليس هذا وحسب ، بل تعتبر هي المسؤولة المباشرة على تفريخ جماعات إرهابية متطرفة في المغرب كانت لديها اليد الطولى في تفجيرات الدار البيضاء بالخصوص ، وهي ” السلفية الجهادية ،الصراط المستقيم ، التكفير والهجرة ” . وبهذه الصورة يسدل الستار على فصل من التوازن الديني كانت فيه السلفية الوهابية تلعب فيه دورا محوريا ، لكن أعطى نتائج وخيمة ، على الدولة وأمنها، وأدى مما أدى إليه ، ليبقى السؤال الأساسي عالقا ، ما الذي دفع الدولة من البداية إلى الاستعانة بهذه السلفية التي تدرك سلفا أنها سلفية متطرفة ، ألم يكن حري بالدولة المغربية أن تدبر توازنها الديني واختلافاتها مع باقي المكونات الداخلية للبلد بالحوار البناء ووفق تاكتيكات واستراتيجيات معينة ، أم أن الدولة كانت تفتقر لتلك الآليات ووجدت في السلفية الوهابية الحل السهل والأمثل لكبح جماح الجماعات السلفية المغربية ؟ وأخيرا هل تعتقد الدولة أن تنحية الفكر الوهابي أو السلفية الوهابية من المغرب ، وقطع الإمدادات عليها أنها قضت نهائيا عليها ، أم أن لا زال هناك أتباع لها يعيشون بيننا ، ممن وجدوا ضالتهم فيها ؟ في رأيي لا نستطيع القول أننا قضينا على السلفية الوهابية في المغرب بشكل نهائي ، وإنما نستطيع القول أننا أضعفنا تأثيرها وقوضنا مشروعها في الحقل الديني المغربي ، لكن الحذر واجب من انتعاشة جديدة لهذه السلفية في غفلة من الجميع ، وحينذاك سنجد أنفسنا أمام تحد جديد، وأمام ثور أسود ممقوت ،لكن يفرض عليك مواجهته.