من دون شك تخضع العملية السياسية لمجموعة من الضوابط الأساسية التي لا محيد عنها ، وهي المساهمة في تقنينها وجعلها ذات معنى ، كما أنها تحتاج إلى مؤسسات قانونية ودستورية من خلالها يتم تصريف السياسات الحكومية وبرامجها ، وما إلى ذلك من الآليات الأخرى العملية المكملة للمشهد السياسي السليم من انتخابات وتداول على السلطة وتحالفات حزبية وأغلبية ومعارضة وقس على ذلك من كل هذه الأمور الضرورية التي لا غنى عنها في حقل سياسي يتميز بالدينامية والحيوية والتطور ، وهي أمور ملموسة ومحسوسة ، لكن في نفس الوقت هناك أمور غير ملموسة وغير مرئية وتلعب دورا مهما وحاسما في إنجاح أي تجربة سياسية أو إفشالها ، والقليلون هم الذين يتحدثون عنها وأهمها على الإطلاق مبدأ “الثقة” ، هذا المبدأ الأساسي في الممارسة السياسية هناك من يعتبره قطب رحى وحجر زاوية في أي ممارسة سياسية ديموقراطية حقيقية وهي المحصن رقم واحد لها من الاهتزازات والارتجاجات ، ورغم أنها غير قابلة للقياس والملاحظة لكن نتائجها تظهر ، كما أن فقدانها أيضا تظهر تأثيراته وانعكاساته السلبية سواء بين طرفين سياسين أو بين حزبين أو أكثر أو بين مؤسسات معينة، كالمؤسسة الملكية وباقي الفرقاء السياسيين و ما إلى ذلك ، والمغرب حافل بتجارب عدة لعبت فيها الثقة أو فقدانها دورا بارزا في التأثير في السيرورة السياسية ومسارها فيه منذ الإستقلال إلى يومنا هذا سواء كما أسلفنا الذكر بين أشخاص سياسيين بعينهم أو بين جهة وأخرى أو مؤسسة وأخرى ، فلماذا تتحقق هذه الثقة في مرحلة من المراحل ولا تتحقق في أخرى بالرغم من أن الأمر قد يتعلق بنفس الأطراف ؟ ما الذي يجعل مسألة بناء الثقة بين الأطراف السياسية أو إعادتها بينهما أمرا في غاية الصعوبة ؟ نطرح هذه الأسئلة ونحن نستحضر كيف نجح الفاعلون السياسيون في إنجاح مثلا تجربة التناوب التوافقي سنة 1998 ،والذي يمكن اعتباره نموذجا تاريخيا أفرز توافقا حقيقيا ، مما قد بجعلنا نعتبره مقياسا نقيس به باقي التجارب اللاحقة، ويمكن أن نعتبره كذلك مرجعا في ذلك، هل نستطيع أن نقول أن نجاح تناوب 98 نابع من منسوب الثقة العالي والمرتفع الذي كان سائدا بين القصر والكتلة بصفة عامة ، وبالتالي تمّ فك جزء من الصراع حول السلطة ، وتحريك النظام السياسي ومعه تدبير الشأن العام ، أم المسألة تحكمها خلفيات واعتبارات أخرى؟
هناك شبه إجماع لدى الباحثين السياسيين في المغرب أن أقوى حالات التوتر والتشنج التي عرفها المسار السياسي المغربي منذ الاستقلال إلى اليوم هي الحالة التي كانت فيها المؤسسة الملكية في صراع مع القوى اليسارية والاختلاف العميق الحاصل بينهما حول الممارسة السياسية وشكل السلطة والحكم ، ونفس الشيء وبنفس الدرجة ربما أيضا مع الحركة الإسلامية ، وإن كان السياق السياسي مختلف و الظروف مختلفة ، فبالنسبة للصراع بين المؤسسة الملكية واليسارلم يكن من السهل تذويب الخلافات بينهما في هذا الصدد وتذويب جبل الجليد الي يفصلهما للوصول إلى توافق سياسي يحفظ ماء وجه الجميع ، وتُطوى صفحة وتفتح أخرى ، صحيح مرت مياه كثيرة تحت الجسر ، وعرف المغرب تحولات سياسية عميقة ووقعت هناك تعديلا ت كثيرة على الدستور المغربي في مناسبات عدة ، وتم إرسال إشارات متبادلة بين المؤسسة الملكية والقوى اليسارية ، لكن كل ذلك لم يكن كافيا للمرور إلى مرحلة سياسية جديدة لولا الشروط الموضوعية التي حسمت في هذا التغيير ، وأهمها الثقة التي بدأت تتأسس خيوطها ويكبر منسوبها بينهما لأن صار واضحا أن المصلحة الوطنية تقتضي ذلك ، فأفضى هذا المسلسل من الشد والجذب إلى ما اصطلح عليه بالتناوب التوافقي ، ومن هنا نستطيع القول أن الثقة ببعديها المؤسساتي والشخصي تحيل إلى إحدى ضوابط اشتغال النظام السياسي حيث لا يمكن إقرار قواعد توطد هذه الثقة إلا بوجود طابعها الشخصي وهو الشيء الذي بدأ يتسرب إلى العمل السياسي والذي عبّر عنه برغبة الطرفين في التعاطي مع مبادرات الآخر بنوع من التعاطف أو بلغة “محمد عابد الجابري “تغليب الموقف الوطني لتطويع الموقف السياسي وهو ما وظفه أقطاب الكتلة حينما بدأوا في التفكير في التعاطي بنوع من الإيجابية مع مبادرات الملك الراحل “الحسن الثاني” الهادفة إلى إقامة تناوب مراقب ، وهكذا فكلا الطرفين بدءا في تأسيس علاقة ود سياسي بينهما ، هذا الود سيكلل بإصلاح دستوري ، منح الفاعلين السياسيين هامشا كبيرا في تدبير الشأن العام ، ولقد كان لمسار الثقة هذا انعكاسا إيجابيا على الساحة السياسية وحتى الحقوقية ، الذي جعل الدولة تغير الكثير من مواقفها ، وتم الانتقال إلى العمل المؤسساتي الذي يتجاوز منطق الإقصاء والاحتكار ، وتبني منطق التفاوض ، حيث اُعترف لتشكيل اليسار الجذري بالعمل والترخيص لفعالياته بتأسيس أحزاب خاصة بها وما إلى ذلك من المواقف الأخرى التي لعبت فيها أجواء الثقة التي كانت تحيط بالواقع السياسي المغربي آنذاك دورا مركزيا، ورغم أن بعد هذه التجربة السياسية الفريدة وقعت مجموعة من الأحداث التي أثارت بعض الشكوك والتساؤلات خاصة بعدما لم يتم احترام ما سمي حينذاك بالمنهجية الديموقراطية في تعيين وزير أول لحكومة ما بعد التناوب ، الا أن هذا لا يمنع من القول أن الثقة كمبدأ لم تمت أبدا بين المؤسسة الملكية والأحزاب السياسية عامة ، وهذا ما سيظهر جليا بعد أحداث 20 فبراير أو ما سمي بالحراك الوطني ، هذا الحراك الذي تلته العديد من التطورات في المشهد السياسي المغربي كان أهمها الموافقة على دستور جديد للمملكة ، بعد خطاب الملك الشهير ، أعقبته دعوة إلى تنظيم انتخابات تشريعية ، أوصلت حزب “العدالة والتنمية ” إلى السلطة ، فهل كان من الممكن أن يصل هذا الحزب الإسلامي إلى السلطة وإلى سدة الحكم ،وتطمئن إليه المؤسسة الملكية أولا ثم شرائح المجتمع المغربي ثانيا لو لم تكن هناك ثقة متبادلة بين المؤسسة الملكية والحزب التي نسجت خيوطها منذ أن سمح للحزب في الانخراط في العملية السياسية من بابها الواسع ومن خلال المؤسسات ؟ رغم أن تاريخ الحركة التي انبثق منها هذا الحزب كان له توجهات متطرفة نوعا ما ، وبقي هذا التاريخ يطارد الحزب ، رغم أن الحزب قد قام بقطيعة مع الكثير من المفاهيم التي رصعت هذا التاريخ وأصبحت جزءا من الماضي ، ناهيك عن العديد من الضربات التي يتلقها هذا الحزب من أطراف عديدة ومحاولة تقديم صورة سوداوية عنه، ومحاولة شيطنته في كثير من الأحيان ، لكن رغم ذلك بقيت الثقة بينه وبين المؤسسة الملكية هي المحدد ، والقول الحاسم والفاصل،واحترم الدستور واستمرت العملية السياسية بانسيابية تامة ، صحيح أن الحزب قد احتل المرتبة الأولى في الاستحقاقات التشريعية التي تلت هذا الحراك، الشيء الذي خوَّل له قيادة الحكومة بقوة الدستور ، لكن كما أسلفت الذكر لو لم يَحْظَ بالثقة الملكية لما استتبت الأمور بين يديه ، فالثقة هي الخيط الناظم في كل ذلك.
اقتصرنا في هذا المقام على مثالين لنبين مدى الدور الذي تلعبه الثقة في بلورة عملية سياسية متينة قادرة على الاستمرار وتعطي زخما ونفسا لها ، وهي القادرة على تذويب الخلافات وتقريب وجهات النظر بين الأطراف والفاعلين المشكلين للمشهد السياسي برمته ، وتحقيق التوازنات الطبيعية فيه، ونحن هنا حصرنا الثقة في مستوياتها العليا ، لكن يمكن أن ننزل بها إلى مستويات دنيا ، دون أن يؤثر ذلك عل مفعولها الإيجابي الذي تحدثنا على بعض جوانبه في هذه الورقة ، ولو أردنا أن نسوق أمثلة أخرى من عدم الثقة لما أسعفنا هذا الحيز ،وهذا شيء طبيعي في الممارسة السياسية ، فمثلما هناك الوفاء فهناك الخيانة ، ألم تكن ثقة الراحل الحسن الثاني كبيرة في العديد من كبار الضباط وانقلبوا عليه على دفعتين ؟ وكم من سياسي تم تأمينه عل سر فأفشاه ؟ هكذا هي السياسة ، لا تستقر على حال .
![]()
