المُعمِّرون في الأرض ..أو حينما يتمسك المتقاعدون بكراسي المسؤولية

انتهى المؤتمر الثالث عشر للاتحاد المغربي للشغل ، الذي يخلد الذكرى السبعين لتأسيس أقدم وأعتد نقابة عمالية في المغرب ، وأفرز ولاية رابعة لنفس الرجل ، الميلودي موخاريق، ونحن إذ نهنئه على هذه الثقة التي وضعها فيه المؤتمرون وصوتوا لصالحه ، لكن في نفس الوقت تحاصرنا العديد من الأسئلة حول إصرار الزعماء النقابيين على التشبت بكرسي المسؤولية ، ولا يود التفريط فيه مهما كانت الظروف والحيثيات ، وهذه ميزة يكاد يتقاسمها الجسم النقابي مع الجسم الحزبي ، في ضرب لعرض الحائط لمفهوم الديمقراطية والتداول على مناصب المسؤولية ،والغريب في الأمر أنه تجد هذا المسؤول الحزبي أو النقابي يتحدث عن الديموقراطية ويعطي فيه دروسا ومحاضرات وهو أول من يخالف ويخرق أبسط مبادئها ، يتحدث عن الديموقراطية حينما يتعلق الأمر بإطارات حزبية أو نقابية أخرى ، وحينما يتعلق الأمر به هو ، يبدأ في البحث عن مسوغات ومبررات لاستمراره في ذلك المنصب ،وهذا ما جعل الكثير من المهتمين والدارسين يتنذرون على هؤلاء بمقولات كثيرة تعكس ثقافة التشبت الأعمي بالكراسي والزعامة والقيادة من قبيل أن الزعيم المغربي لا يفارقه مع الكرسي الا الموت ، أبهذه العقلية وبهذه الممارسات نؤسس للمجتمع الديموقراطي الحقيقي المنشود ؟ أبهذه البيروقرطية وقطع الطريق على الآخرين للولوج إلى هذه المناصب وممارسة هذه المسؤوليات نؤسس لمجتمع المؤسسات ولثقافة الانخراط السياسي والنقابي ، ونشجع المجتمع على ممارسة الفعل الحزبي والفعل النقابي ؟ أهذه هي الصورة التي يراد تسويقها عن المغرب أمام الرأي العام المحلي والدولي وكيف تُدار الأمور فيه ؟كلما اعتقدنا أن المغرب يخطو خطوات حثيثة نحو التطور في الممارسة السياسية والحزبية أو هكذا يُخيل لنا على الأقل تطفو إلى السطح مثل هذه الممارسات التي تجرنا إلى الخلف وتكرس واقعا مريرا يصعب التخلص منه بسهولة ، لكن دعنا نكون منصفين وإعطاء لكل ذي حق حقه ،فهذا الزعيم النقابي أو الحزبي لم يكن ليتمسك بهذا الكرسي لو لم يجد من يدعمه ويدافع عنه ويصوت عليه ، فالمسؤولية إذن في هذا المشهد كله تتقاسمها أطراف عديدة ، ونحن نعلم الآليات التي تشتغل بها التنظيمات السياسية والنقابية في المغرب وأمست لا تخفى على أحد ، فأول ما يفكر فيه النقابي أو السياسي حينما تُعبَّد له الطريق للانقضاض على كرسي القيادة ، يصنع له أتباعا، يوما عن يوم ، يبحث عن أتباع جدد، حتى يؤسس قاعدة جماهيرية كبيرة بناء على إغراءات أو امتيازات معينة ، وفي النهاية يستطيع أن يشكل بكل هؤلاء الأتباع تيارا قويا وضخما ، يكون حاضرا وثقيلا في أي استحقاق رسمي ، فهؤلاء الموالون يعتبرون ورقة رابحة تستطيع بسهولة إمالة الكفة لهذا التيار على حساب الآخر ، والذين أعرضوا عن الانضمام إلى السمفونية يبقوا أبد الدهر خارج حسابات الزعيم أو القائد ، أو يتربص بهم ذات اليمين وذات الشمال للتخلص منهم في أقرب فرصة أو مناسبة ممكنة، أو هم يتركون التنظيم طواعية ، فكم من إطار حزبي أو نقابي أُفرغ من خيرة أطره ومناضليه بسبب عناد الزعيم أو القائد ، ورفضه الاحتكام إلى شروط اللعبة الديموقراطية ،وقبول الاختلاف ،وهؤلاء إما ينضمون إلى تنظيمات أخرى ويدعمون صفوفها ويكونون ضيوفا مرحب بهم ، على اعتبار أنهم راكموا تجربة سياسية أو نقابية محترمة، وبالتالي يعتبرون لاعبين جاهزين للدفع بهم في أي استحقاق ، ويمكن أن يضمنوا مقعدا جماعيا أو برلمانيا ،أو مسؤولية نقابية معينة، إما يؤسسون هم أيضا أحزابا أو نقابات جديدة بلا لون أو طعم ، أو بلا مرجعية سياسية أو إيديولوجية حقيقية ، بل حتى بدون مشروع سياسي أو نقابي واضح ، يمكن أن يشكل قيمة مضافة لما هو سائد على الساحة ، ولهذا تجد في المغرب أحزابا ونقابات لا تحمل من ذلك الا الإسم تتلقى الدعم من دافعي الضرائب دون أن تقوم بأي عمل سياسي أو نقابي يذكر ولامن يحاسبها أو يراقبها ، ومنها من تعيش في كمون تام ولا تسمع حسيسها أو ضجيجها حتى تقترب استحقاقات ما ، أو تعلن عن عقد مؤتمراتها ، أو القيام بأنشطة خجولة هنا أو هناك دون أي تأثير قوي في الساحة الحزبية أو النقابية ، لذلك صار من الضروري اليوم وأكثر من أي وقت مضى تقننين هذين الحقلين ، والحد من تفريخ المزيد من التنظيمات الحزبية والنقابية الجوفاء .

كان الرهان حقيقة على المؤتمر الثالث عشر للاتحاد المغربي للشغل أن يفرز قيادة جديدة ، لكن للأسف صعدت نفس الوجوه إلى القيادة ، وراح القول عن غضب فئات من هذا التجديد للزعيم،الذي كرّس عُرفا أو تقليدا كنا نخاله سوف يختفي إلى غير رجعة ، دون أن يدرك أن بذلك يرسل رسائل غير جيدة على المشهد النقابي المغربي المأزوم أصلا ، والذي يعيش أوضاعا لا يحسد عليها ،فأغلبية الجماهير العمالية والشغيلة في كل القطاعات لم تعد تثق في هذه الإطارات النقابية ، بعدما تم اكتشاف تخاذلها وتقاعسها في الدفاع المستميت عن مطالبها المشروعة ومهادنتها غير المبررة للجهات المسؤولة ، واللعب على الحبلين ، تلك اللعبة المكشوفة التي لم تعد تنطلي على أحد ، ولقد شاهدنا في الأيام الأخيرة التي تزامنت مع تمرير قانون الإضراب ، كيف تعاملت كل النقابات ، وليس الاتحاد المغربي للشغل مع مجريات هذا التمرير ، وانتظرت بعد لقاءات ماراطونية مع وزير الشغل،والتي كان فيها النقاش محتدما كما يقولون على بنود هذا القانون ، حتى تم التصويت النهائي على القانون ، وصوّت من صوّت ، وانسحب من انسحب ، وامتنع من امتنع ، في جو سوريالي لم يفهم فيه المواطن أو الأجير أو الموظف المغبون المغلوب على أمره أي شيء ، فأصبح أسير التخمينات وضرب الكف ، وأعلنت على إضراب وطني ، وهي تعلم أن العملية انتهت وذهب كل واحد إلى حال سبيله ، وحتى اللهجة التي بدأ يتحدث بها الزعيم الصنديد عن الحكومة تغيرت بين عشية وضحاها ، وسمى وزير الشغل بالوزير المنبوذ ، وهو الذي جالسه وتحاور معه وتبادل معه الرسائل بخصوص قانون الإضراب ، فعلى من يزايد السيد الكاتب الوطني ؟ كل ذلك اعتبره المهتمون والمحللون نوع من التسخينات التي سبقت المؤتمر ، والتي يراد منها إقناع أكبر عدد من الناس أن هذا هو الشخص الوحيد القادر على الوقوف في وجه هذه الحكومة المتغولة كما يسميها السيد عبد الله بوانو، وإذا كان فعلا هذا الشخص هو القادر على ذلك ، فليظهر ذلك في الميدان ، فالأسعار تناطح السحاب ، والطبقة الفقيرة استسلمت لأمر الواقع ورفعت الراية البيضاء أمام غلاء المعيشة ،أروني ماذا أنتم فاعلون ، أما إذا فتحنا الملفات المطلبية الحارقة التي تهم فئات عريضة من الشغيلة المغربية في مختلف الوظائف ، والتي تحتاج إلى حلول عاجلة فلن ننتهي من سردها ، والتي نتمنى أن تباشر العمل فيها النقابة العتيدة في أقرب وقت ،نريد للمغرب نقابات وأحزابا قوية تستمد قوتها ومشروعيتها من الجماهير تحترم مبادئ الديموقراطية والتداول على المسؤولية ، وإعطاء فرصة للشباب لتحمل المسؤولية والتدرب عليها ،واعتبار مصلحة أبناء هذا الوطن هي العليا، والحد من الاقتيات على أزماته التي لا تنتهي ، فصناعة الخلف أمر ضروري وواجب في أي تنظيم سياسي أو نقابي ،كيفما كان ، وإلا سيموت هذا التنظيم عاجلا أو آجلا . وهذا قد يحدث فراغا سياسيا أو نقابيا في المجتمع ،والطبيعة طبعا لا تقبل الفراغ.

Loading

Share
  • Link copied