في بعض أشكال الاستغلال السياسي والإيديولوجي للتاريخ

علاقة السياسة بالتاريخ علاقة متشابكة ومتداخلة يصعب الفصل بينهما، بل يمكن القول أن السياسة لا يمكنها أن تحيى الا بوجود التاريخ ، كما أن التاريخ لا يمكن أن يتحرك مجراه الا بالسياسة ، وهذه المسألة أو هذه العلاقة بهذا الشكل قد تبدو عادية ، وقد لا تثير نقاشا أو اهتماما من أي جهة كانت ، لكن أن تتحول هذه العلاقة إلى علاقة استغلال وتوظيف فهذا نقاش وموضوع آخر ، وإذا كانت مسألة هذا الاستغلال أو هذا التوظيف السياسي والإيديولوجي للتاريخ ثابتة على مر العصور وتأخذ أشكالا مختلفة حسب الظروف والسياقات ، فتارة يبدو هذا الاستغلال طبيعيا ، وتارة يبدو مبالغا فيه ، ويحمل بين طياته خلفيات إيديولوجية لتحقيق أهداف وغايات معينة، طبعيا إذا كان التاريخ يرصد الوقائع والأحداث وحتى الحقائق التاريخية التي تعتبر نتاج لسياسة معينة تنهجها دولة أو نظام سياسي معين ، ويعتبر التاريخ في هذه الحالة تلك العين الفاحصة والموثقة لكل تفاصيل تلك الاحداث والوقائع كيفما كانت طبيعتها وحجمها، وهذا من صلب أدواره التي لامحيد عنها، مبالغا فيه إذا كانت كل تلك الأحداث والحقائق تتجاوز بعدها التاريخي الصرف إلى أبعاد أخرى إما لاضفاء المشروعية على أنظمة معينة ، أو لتحميل بعض من هذه الحقائق ما لا تحتمل لتبرير سلوكات أو ممارسات تمارسها دولة معينة أو نظام معين لإخضاع المجتمعات بناء على إيديولوجيات معينة مستلهمة من القراءات أو التأويلات المتعسفة للتاريخ ، وقد لا يقتصر أمر استغلال التاريخ أو توظيفه إيديولوجيا عند دولة أو نظام سياسي ما لما يخدم مصلحتهما ، فقد يتعدى الأمر ذلك إلى جهات أخرى تنحو نفس المنحى رغم اختلاف الأهداف ، وهذا ما نجده عند عائلات بعينها ، أو قبائل أوعند بعض الأحزاب السياسية أو بعض جمعيات المجتمعات المدني وقس على ذلك ، فأغلبها تركب على التاريخ لتحقيق شرعية معينة ، أو لحجز مكانة اعتبارية في المجتمع أو الحصول على امتيازات أو حظوة في تسلق المراتب الاجتماعية وما إلى ذلك، لكن يبقى في النهاية أخطر ما يوجد في هذا الاستغلال للتاريخ هو حينما يصبح مطية لاستعداء جهة لجهة أخرى وزرع الضغينة والأحقاد بين الشعوب باسم التاريخ الذي قد لا يكون صحيحا، وقلب الحقائق والمعطيات لاستهدافها وجعل منها عدوا، وهي كل ما تتهم به براء، ويمكن أن تؤدي الثمن في ذلك غاليا، وهذا غالبا ما يحدث بين الدول وكذلك بين التنظيمات السياسية المتباعدة على مستوى المرجعية أو الإيديولوجية .

بعد هذه الإحاطة المقتضبة وبشكل عام حول بعض الغايات التي يوظف ويستغل من أجلها التاريخ، وتوخيا للتدقيق شيئا ما في هذا الأمر أرى من اللازم توضيح وبالأمثلة بعض أشكال هذا التوظيف السياسي والإيديولوجي له ، فأما من الناحية الإيديولوجية فيظهر ذلك في محاولة السياسة أو أي سلطة التحكم في الحاضر ، باعتبارأن كل تاريخ هو تاريخ معاصر ، بحيث أن التاريخ يكون معاصرا إذا كان الماضي موضوع الإدراك في الحاضر، ويستجيب من ثمة لحاجاته كما يقول غوستاف لوغوف، ومن الأمثلة التي تعضد هذه الأطروحة ، هو كيف استطاع مثلا الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة توظيف التاريخ إيديولوجيا في تشكيل الخصوصية الوطنية التونسية ، حيث تمكن من جعل التاريخ قضية سياسية تروم إعادة كتابة التاريخ التونسي منذ ما قبل الإسلام وفق التوجهات الإيديولوجية للسياسة المتحكمة في دواليب السلطة ، كما يمكن أن نلمس أيضا هذا الشكل من التوظيف عند الاتجاه القومي العربي الذي يرمي إلى تقديم التاريخ باعتباره تاريخا وحدويا، ونفس الشيء نجده عند التيارات الإسلامية ، وعند الحركة الأمازيغية التي لم تشذ هي الأخرى عن القاعدة في هذا التوظيف للتاريخ للبحث عن عراقة الوجود الأمازيغي ، وبالخصوص حينما تتم العودة إلى الصراعات والنزاعات بين الأمازيغ القدامى والفراعنة المصريين ، لتبرير هذه العراقة على هذه الرقعة الجغرافية التي تسمى شمال إفريقيا، فهذه الأحداث التاريخية توظفها بشكل مكثف ومفرط الحركة الأمازيغية في التاريخ المعاصر ، وإذا أردنا الخروج من الدائرة العربية في هذا السياق ، ونضرب مثالا مختلفا ومن بيئة مغايرة في هذا التوظيف ، يمكن أن نذكر مثلا كيف استطاعت الدولة اليهودية توظيف المحرقة أو الهلوكست في استدرار عطف العديد من الدول والاعتراف بها على اعتبار أنه شعب مضطهد ولا بد له من وطن وأرض ، ويتجلى أيضا استغلال التاريخ حينما يتم تحريفه وتزويره ، ويعتبر هذا الشكل من الاستغلال أو التوظيف من أبشع وأفظع أنواع الاستغلال بإجماع المتخصصين والباحثين ، لأن المسألة تنطوي على خطورة كبيرة على مسار حياة الشعوب والأمم ، فكثيرة هي السياسات العامة التي تتأسس ملامحها على الرصيد التاريخي أو المشروعية التاريخية، فكيف يمكن أن تكون هذه السياسات سليمة وتجدي نفعا إذا كان هذا الرصيد التاريخي كله كذب وزور وتحريف؟ مثل هذه الأفكار والممارسات هي التي تجعل مستقبل الكثير من الشعوب في مهب الريح ، ولا تستطيع الإقلاع والنهوض ، لأن الأمة التي لا تعرف تاريخها بشكل حقيقي تعيد تكرار أخطاء الماضي ، كما يقول ونستون تشرشل، وبالتالي تبقى في دائرة التخلف ، وتكمن هذه الخطورة أيضا حينما يكون التاريخ أو الكتابة التاريخية مستظلة بظلال الشهوة والنزوات التي تحرك المخبرين في سردهم للوقائع والأحداث ، ويتفاقم أمر تزوير وتحريف كتابة التاريخ،حينما تتدخل الأنظمة أو السلطات الحاكمة في كتابة تاريخها الخاص مخلصة إياه من كل الشوائب التي لا تخدمها ، فيتم بذلك حذف الوقائع والأحداث بعينها وإسقاطها من حسابات التاريخ بغضا أو حبا أو خبثا أو غلبة كما يقول البيروني، وبالعودة مثلا إلى المغرب ، يمكن أن نرصد فيه الكثير من حالات التزوير والتحريف التي طالت التاريخ وبالخصوص فيما يتعلق بتاريخ المقاومة ،التي لم تكن الغاية منها سوى السيطرة السياسية والحزبية والوصول إلى مطامع ومطامح شخصية ، فكثيرة هي الأحزاب التي توظف هذه الحقبة من تاريخ المغرب الحديث وجعلها مكونا فكريا وإيديولوجيا تؤسس عليه مشروعيتها ومصداقيتها ، وتجعلها أيضا بؤرة صراع حول السلطة والمصالح المادية والرمزية، ومن الأحزاب المغربية التي اشتغلت على هذا الجانب واجتهدت في توظيف تاريخ المقاومة لصالحها وأقصت أحزاب أخرى من المشهد السياسي الذي عقب استقلال المغرب، نذكر بالتحديد حزب الاستقلالالذي كان يرى نفسه جديرا بقيادة المغرب بحكم أنه حزب خرج من رحم الحركة الوطنية ، ونحن نعلم ما آلت إليه الأمور في المغرب السياسي بفعل هذا الإصرار غير المبرر لحزب الاستقلال للهيمنة على الواقع السياسي المغربي في ذلك الإبان، وفي النهاية يمكن أن نتحدث على شكل أخير من الاستغلال السياسي للتاريخ وهو ما يسمى بالتهام السلطة للتاريخوهو مرتبط بنوع من الدهاء السياسي الذي قد يضحي بالأخلاق الاعتيادية باسم المصالح العليا للجماعة أو القضايا التي يتم الدفاع عنها ، سواء كانت هذه الجماعة أمة أو طبقة أو حزبا سياسيا، وبشكل خاص حينما يكون الطموح هو الوصول إلى كرسي السلطة والانقضاض التام على كل الصلاحيات التي يخولها هذا الكرسي ، فلا شك أن الدارس والمهتم بالتاريخ المغربي المعاصرسيتوقف عند ما كان يسمى بقضية المؤامرة على ولي العهدوهي اغتيال ولي العهد آنذاك الراحل الحسن الثانيفي أواخر الخمسينات من القرن الماضي ، وهي قضية كتب فيها الكثير ، لكن اتضح فيما بعد حسب العديد من المؤرخين أن المسألة تم استغلالها سياسيا آنذاك لقمع ما سيصبح فيما بعد باليسار، لقد استعمل الراحل الحسن الثاني دهاءه السياسي الذي اشتهر به ويكاد لا يضاهيه في ذلك أية شخصية تاريخية ، لالتهام التاريخ من أجل إبعاد القوى اليسارية من أبيه الراحل محمد الخامس الذي يبدو قريبا ومتقاربا بين وطنيي اليسار الذي كان يتعاون معهم بشكل كبير ووثيق في عهد حكومة عبدالله إبراهيم“.

يبقى كل ما تطرقنا إليه آنفا حول علاقة السياسة بالتاريخ وأشكال استغلال السياسة له فيض من غيض ،ومن المؤكد أن هذه الصورة وهذا الاستغلال أوهذا التوظيف سيبقى على امتداد التاريخ ويمكن أن يأخذ أشكالا مختلفة غير التي ذكرناها.

Loading

Share
  • Link copied