لعل من بين الأسئلة المقلقة التي تشغل بال الطبقة المثقفة كما المهتم والمتتبع للشأن الثقافي عامة في المغرب والشأن الأدبي بصفة خاصة ،هو حول مآل أو مآلات الرواية إن صح التعبير في المغرب اليوم ،وأي مستقبل ينتظرها في ظل العديد من التغيرات والتحولات الاجتماعية والثقافية الكبيرة التي يعيشها المغرب ،كما العالم ؟ إلى أي حد ستصمد مقولة “هيمنة الرواية على المشهد الأدبي وموت باقي الأجناس الأدبية الأخرى،وأننا نعيش زمن الرواية بامتياز“؟خاصة وأن هذه المقولة وجدت صداها ومفعولها حتى في المغرب وصار الإيمان والإعتقاد بها مسلَّما به، وبات الكثير يدافع عن هذا الطرح وفي بعض الأحيان بطريقة مبالغ فيها ،كيف ستصمد هذه المقولة والحديث يروج وبشدة على أن الرواية في الغرب تعيش أزمة غير مسبوقة مما قد يدفعها للتخلي عن عرشها لأجناس أدبية أخرى كالمسرح أو غيره من باقي الفنون،أو عودة الشعر إلى مكانته السابقة ؟لقد تحدث الروائي الفرنسي” ألان روب جرييه“في مؤتمر الأدباء بموسكو“،حيث صرح بأن الرواية قد استنفذت كل موضوعاتها ،ولم يعد هناك مجال للروائي سوى الشكل“.وإذا كان هذا الروائي الفرنسي قد تحدث في هذا المؤتمر عن بعض الأسباب الحقيقية المساهمة في أزمة الرواية الغربية، والتي أغلبها تبدو نابعة من خصوصيات المجتمعات الغربية التي تختلف جملة وتفصيلا مع خصوصيات ومميزات باقي مجتمعات العالم ،وبالتالي قد لا تصح مقارنتها بالرواية العربية عامة والمغربية خاصة التي تنهل من روافد ومنابع مختلفة ،مما يعني أن شروط بقاء وازدهار هذا الجنس الأدبي قد تختلف ليس من قارة إلى قارة وحسب ،بل يمكن أن تختلف من مجتمع إلى آخر رغم بعض التشابهات أو التقاطعات التي قد تشترك فيها لكن دون أن تصل إلى ذلك المستوى من التماهي أو التطابق، فشروط ازدهار الرواية في إنجلترا أو فرنسا أو إيطاليا مثلا ،ليس هي نفسها في الهند أو الصين أو المغرب،فلكل مجتمع مميزاته وخصائصه كما قلنا ،ولذلك فكل ما قد يؤدي إلى “أزمة الرواية” في هذا المجتمع فليس بالضرورة أن يكون هو نفسه المفضي إليها في مجتمع آخر،ولا مراء أن الأزمة التي تعيشها الرواية في الغرب كما يوضح ذلك أيضا “نجيب محفوظ“،هي ترجمة لجفاف منابع الإيمان وإفلاس القيم ،ولعله الإفلاس الذي بثَّ في الرواية الأوروبية ،إضافة إلى ميسمها الشكلاني “نزعة ميتافيزيقية” ، لقد كانت أوروبا في رأي “نجيب محفوظ“تؤمن بالعمل ثم فقدت الإيمان به،فبدأت تتجه إلى الميتافيزيقا ،ف” حين كان الإنسان يؤمن بالمجتمع ظهرت “الرواية الواقعية” و” الرواية الطبيعية” ،فلما بدأت فترة الشك في المجتمع والعقل ،عادت جميع الأسئلة القديمة التي غمرها النجاح في النسيان ،تُلِحُّ في طلب الإجابة عنها. وربما كل هذه الأمور التي تحدث عنها” نجيب محفوظ ” وغيرها ،فإلى حدًِ الآن على الأقل غير واردة في البيئة المغربية ،الشيء الذي قد يُفَسَّر على أن إذا كان هنالك في المستقبل من سقوط أو فشل أو أزمة في الرواية المغربية فقد يكون نتيجة أمور أو عوامل أخرى قد تكون بعيدة كل البعد عن أسباب فشلها في الغرب،لكن كل هذا لا يعني بالمطلق أن الرواية المغربية بمنآى عن هذه الأزمة التي تعرفها نظيرتها في الغرب لاعتبارات عدة أهمها هو أن هناك تأثيرات وترابطات متبادلة بين الرواية هنا وهناك ،وحينما تُصِب أزمة مجال من المجالات في بلد ما ،سواء كان المجال ثقافيا أو أدبيا أو غيره،فغالبا ما تُصِب شظاياها تلك المجالات نفسها في بلدان أخرى ،قد يكون هذا الحديث في الوقت الراهن سابق لآوانه بالنسبة للرواية المغربية ،لكن هذا لا يمنع من أخذ جميع الاحتياطات والمحاذير الممكنة لعدم السقوط في الفخ ،ولا بد من الابتعاد عن تكرار سيناريوهاتها في الغرب ،سابق لآوانه لأنها لم تصل بعد إلى ذلك الأوج الذي يمكن أن يليه الانهيار أو الدخول في أزمة معينة ،فلا يمكن أن نتحدث عن أزمة لشيء لازال حديثا وغظًّا طريا أو في بداياته فعُمر الرواية المغربية لا يتجاوز السبعين سنة ،وبالتالي لازلنا ننتظر منها الكثير في المستقبل ،من الجائز أن نضع لها تقييما شموليا كتجربة فريدة أصبحت تتمتع بهوية خاصة ،لكن من الصعب استصدار أحكام مطلقة ونهائية حولها ،فكل ما قد يقال حولها فهو يتعلق بصاحبه ومن منظاره الشخصي الذي لا يجوز تعميمه،ما يبدو الاتفاق عليه ممكنا هو أن الرواية المغربية بمنطق الزمن والتراكم فهي حديثة وبالتالي لازالت لم تستقر بعد على أي ضرب يمكن اعتباره خاصا أو متميزا أو فريدا في بابه ،كما هو الحال في الكتابات الروائية التي نستقبلها من الشرق أو من الغرب ،بعد أن حققت لنفسها ،في السياق الثقافي الخاص ،شيئا كثيرا من التراكم صارت به توجُّها راسخا في بناءاته والعوالم التي تطرقها والمجالات أوالقضايا التي تُعَبِّر عنها في علاقتها بالوجود الاجتماعي الخاص،أو بالتحولات الحادثة في العالم المعاصر أو بغيرهما،والرواية المغربية رواية حديثة بالمعنى الذي يفيد أيضا بأنها في تجاربها المتطورة، وهي قليلة وقد لا يفيد أصحابها ما يعلنونه من إدعاء نرجسي ،مازالت تبحث عن حكايتها الخاصة التي من المفروض أن تغري القارئ إن وُجِد ،بتتبعها ويتفاعل معها والاستئناس بها في الاستدلال على عوالم معينة، كما يمكن أن نصف هذه الرواية بالحديثة من منطلق أنها في الوقت الحالي ليست إلا تجارب أدبية محدودة ،زمنها قصير ومجال انتشارها ضيق ومتقلص،مع بعض الاستثناءات القليلة التي تسعفها الظروف إلى تجاوز الحدود،وقدرتها كنصوص أدبية على إغراء قرائها غير محسوسة حتى بالنسبة لكتَّابها ،وما يؤكد هذا الكلام هو أن متوسط الكتابة الروائية لأغلب كتَّابها نساءا ورجالا ،لا يتجاوز عشر روايات على الأكثر ،الا بالنسبة لروائيين من جيل السبعينات ( كمحمد برادة،عزالدين التازي ،وأحمد المديني)،وإذا كان كل ما أسردناه حول بعض من صعوبات اكتمال الصورة الروائية في المغرب وأن تشكلها لم يكتمل بعد من منطلق المعايير المرجعية العالمية ،فإن هذا لا يمكن اعتباره تقليلا أو تبخيسا لقيمة الرواية المغربية على الإطلاق خاصة وأنها منذ نشأتها وهي تصارع من أجل البقاء وبناء الأنموذج المغربي الخالص بكل ملامحه وقسماته المميزة ، وهي مفتوحة على عوالم كثيرة واحتمالات عديدة ،فقد التحق بموكبها مؤرخون وفلاسفة ،وانضاف إليها شعراء بارزون أمثال( بنسالم حميش ومحمد الأشعري وحسن نجمي…) وبالفرنسية مثل ( محمد خير الدين و عبد الكبير الخطيبي والطاهر بن جلون) ومن المسرح ولج إلى دهاليزها كل من ( عبد القادر السحيمي ويوسف فاضل وإدريس كسيكس..)،ولذلك يمكن اعتبار هذه الهجرة إلى الرواية في المغرب ظاهرة صحية وتجربة إبداعية تغنيها ،وأكثر من ذلك رفع الحدود المصطنعة بين الأجناس الأدبية ومعاملتها قدر المساواة ،ولعل مثول بعض العناوين الروائية في القوائم القصيرة أو الطويلة للجوائز عربية وغير عربية بالرغم ما تثيره من نقاش وردود،بل وفوز العديد من الروائيين المغاربة بها ،لكن على الأقل تعطينا إشارات مهمة على أن الرواية المغربية على الطريق الصحيح ولاخوف عليها ،ولها من الإمكانيات ومن المقومات ما يجعلها قادرة على مظاهاة ومنافسة نظيرتها من مختلف دول المعمور.