علاقة الروائي بالمدينة..هل أصبحت حقيقة المدينة تشكل هوية مرجعية للرواية

لاتستقيم الكتابة الروائية كما هو معروف إلا انطلاقا من مبادئ ومقومات تمثل الأسس الكبيرة التي تنهض عليها،وهي كثيرة ومتعددة ،لكن يبقى أهمها على الإطلاق هو الفضاء الذي تدور فيه أحداث هذه الرواية ،لا يمكن تخيل رواية منفصلة عن المكان أو عن فضاء كيفما كان نوعه، فالأهم هو وجود مكان يؤطرها ويؤثثها ،وفي هذا السياق تعتبر المدينةمن أهم الأمكنة التي تستهوي الكثير من الروائيين وهي المحفزة لحاستهم التخييلية ،وملهمة لهم في إيجاد التيمات و الموضوعات القابلة بأن تتحول إلى مادة سردية جذابة ومغرية،وتوحي لهم بالأحداث والصراعات والممارسات التي يمكن أن تشكل نواة رواية جديدة، حتى باتت تشكل بهذه المواصفات نوعا من الهوية المكانيةفي جميع بقاع الأرض ،وهي تتبلور كمرجعية طبوغرافية وخلفية جغرافية لهذا النمط من الكتابة بالتحديد ،إلى درجة أمست معه الرواية وكأنها بنت المدينة،ويمكن أن نسوق في هذا الإطار أمثلة توضح إلى أي حد تؤثر هذه المدينة بكل ما يميزها من معالم وأماكن وأزقة وشخوص وطقوس وأعراف و أشكال ممارسة الحياة وأنماط العيش ،وما إلى ذلك من مكوناتها التي تمارس قوة جاذبية خاصة للروائي ولا يجد مناصا للرضوخ لها،والاستسلام لسحرها وإغراءاتها ،نذكر على سبيل الذكر لا الحصر ( باريس عند بلزاك)و (دوبلن عند جويس)و( القاهرة عند نجيب محفوظ )،وهؤلاء الثلاثة وغيرهم يجدون في هذه المدن دون سواها ما يعفيهم عن البحث عن أخرى لتكون أرضية لكتاباتهم الروائية،فهذه المدن كافية بأن تزودهم بكل ما يحتاجون من مواد ولوازم وأدوات ومحفزات الكتابة الروائية ،وبالتالي لا يعطون لأنفسهم فرصة الخروج من هذا الإطار أو هذا المجال الخصب للحرث والإنتاج الذي تقدمه لهم هذه المدن التي تتميز بالغنى والثراء على جميع الصعد ،بينما في المغرب مثلا نجد الأمور مختلفة تماما عما سبق ذكره،حيث نسجل عدم ارتباط الروائي بالمدينة الواحدة وميله إلى تنويع الأماكن والمدارات التي تجري فيها الأحداث ،فالروائي المغربي لايستقر على مدينة بعينها تكون هي المكان الوحيد لرواياته بل يجنح دائما نحو التعدد والتنوع والاختلاف وهذا في حقيقة الأمر ينطوي على خلفيات وأبعاد كثيرة تدل على أن الروائي المغربي نفسه يعيش حالة من اللااستقرار وهو دائم البحث عن المكان المناسب الذي يشعر فيه بالسكينة والهدوء ،والمكان الذي يستجيب لطموحاته في الكتابة والذي قد يتماشى ونوع الموضوعات التي يوثر تسليط الضوء عليها ،على كل حال موضوع عدم استقرار الروائي المغربي حول مدينة واحدة في الكتابة الروائية وحبه للتنقل بين مدن كثيرة موضوع يحتاج لوحده مقاربة خاصة ومقال منفرد،صحيح هناك استثناءات في الحقيقة في هذا السياق ،حيث كتب ( غلاب عن فاس) و( شكري عن طنجة) وكتب ( المديني ومبارك ربيع عن الدار البيضاء) لكن هذا غير كاف للقول بأن الروائي المغربي وفيٌّ لمدينة من المدن ولا يبارحها في كتاباته كما في التجربة الغربية التي أشرنا إلى بعض الأسماء فيها،وما يعضد هذا الكلام هو أننا نجد مدنا مغربية عريقة مثل العاصمة الرباطمثلا ،ومراكشلم تجد من يتخذها فضاءا للكتابة،رغم ما يمكن أن توفره هاتان المدينتان من فرص للكتابة ومادة خامة لذلك، سواء من الناحية الاجتماعية أوالتاريخية بالخصوص ،وهذا سؤال ينضاف إلى أسئلة أخرى منها عدم إلتفات الروائيين المغاربة لهاتين المدينتين وجعلهما فضاءا لإبدعاتهم وعطاءاتهم الأدبية عامة،ومن هذا المنطلق يبدو ان توزيع الحضور الروائي المدن المغربية غير عادل أو محكوم بمنطق المصادفة لا أكثر ،فقد كتب زفزافعن الصويرة “( الأفعى والبحر 1979 _الثعلب الذي يظهر ويختفي 1985) مع أنه لا ينتسب إليها وإنما جاءها زائرا في حقبة الحركة الهيبيةوكتب محمد برادة عن طنجة زائرا كذلك ( الضوء الهارب 1993) ومثلهما فعل محمد عزالدين التازيمع مدن الشمال كما في روايته ( رحيل البحر 1983) ،بل إن بعض الكتاب اختاروا لرواياتهم مدنا غير موجودة أصلا أطلقوا عليها اسماء رمزية مثل الصديقيةفي روايات عبد الله العرويو المنسية وعين الفرسفي روايات الميلودي شغموموقس على ذلك،وما يزيد حقيقة من عدم وجود علاقة استلزامية في الكتابة الروائية المغربية بين الانتماء لمدينة ما و ضرورة الكتابة عنها ،هو أن المغرب كان دائما بلد الهجرات المتواصلة ،فكثير من الروائيين نزحوا من قراهم دون أن يخفوا ذلك ،أو مدنهم واستقروا في أخرى،ولكنهم كتبوا بدون عقد أو مركب نقص عن هذه المدن ،فهذا مبارك ربيعمن سيدي معاشو كتب كثيرا عن الدار البيضاءومثله فعل أحمد المدينيوهو من مدينة برشيد و محمد زفزاف وهو من سوق الأربعاء وكتب عن مدن مغربية شتى ،و محمد شكري من بني شيكر الريفية وتخصص في مدينة طنجة والأمثلة كثيرة بهذا الخصوص .

وعلى الرغم أن جل النقاد يعتبرون ويؤكدون مما لا يدعو مجالا للشك أن الرواية صارت بنت المدينة بدون منازع،وأصبحت المسألة من المسلمات في التجارب الغربية كما المشرقية مع بعض التفاوتات من طبيعة الحال ،لكن في المغرب لا زلت الحاجة إلى الإجابة عن سؤال جوهري بهذا الخصوص وهو هل الارتباط بالمدينة المغربية في الرواية يؤكد هوية ما؟ بعبارة أخرى هل تشكل المدينة هوية مرجعية للرواية؟

Loading

Share
  • Link copied