في البداية وجب التذكير بأن وجود الشعر في المغرب قديم قدم الزمن ،لكن لم يكن بذلك الزخم الذي كان ينضح به في المشرق العربي ،ورغم كل ما بذله العلامة “عبد الله كنون“مشكورا مذخورا من جهود لإثبات النبوغ المغربي في الشعر ،الا أن هذا النبوغ يبقى محصورا في رموز وعناوين محدودة ،ذلك أن المغرب الثقافي الذي يتحدث عنه هذا العلَّامة هو ،مغرب فقهي أكثر منه شعري ،ولذلك تكاد لا ترى للشعر أي أثر في بعض العصور من التاريخ المغربي على امتداد مساره الطويل ،في الوقت الذي تزدهر فيه الدراسات والتأليفات الدينية والفقهية بمستويات ودرجات كبيرة جدا، وبقيت الأمور على هذه الحال حتى جاءت صدمة الحداثة ،ليس مع الغرب وحسب وإنما حتى مع المشرق الذي يحوز دائما قصب السبق في تطوير حقله الثقافي والأدبي ومحاكاة الغرب في كل ما استجد عنده في المجالات الأدبية والفكرية عامة بما فيها الشعر طبعا ،لقد كان المغرب بحكم ضعف أو فقر تقاليد إبداعه الشعري التي لم تكن متجذرة وموصولة يُسَامِتُ ويُداني المنجز الشعري المشرقي عبر أقطاره وحواضره العريقة،وبالتالي وجد نفسه مقلدا محاكيا تابعا أبعد ما يكون عن الاستقلالية، ليبقى الفضل في كسر هذه التبعية إلى هذه الصدمة الحداثية التي لعبت دورا مهما جدا في دفع المغرب الثقافي إلى النهوض والاستيقاظ للحاق بالركب وفتح أحداقه وأسماعه على سؤال الشعر بصيغة جديدة وجذيرة ،مما جعله يؤسس لنفسه مشروعه الشعري الحديث الذي يظاهي من حيث شروطه ومقوماته نظيره بالمشرق أو بالغرب ،وأصبح الحديث يدور عن مدرسة شعرية مغربية حديثة خالصة بدأت تظهر بوادرها بشكل قوي في أوائل الستينات من القرن المنصرم ،وظهرت بشكل متساوق مع ذلك مجلات من العيار الثقيل مثل” مجلة أقلام” ومجلة ” آفاق” التي احتضنت أولى الإبداعات الشعرية بشكلها الجديد، التي برع فيها الرواد الأوائل أمثال ،“أحمد المجاطي ،محمد السرغيني ،عبد الكريم الطبال ،الخمار الكنوني وآخرين“هؤلاء الذين يسميهم الناقد المغربي “نجيب العوفي“”بالكتيبة الأمامية” للجيل المؤسس للحداثة الشعرية المغربية ،ويمكن أن نذكر أسماء أخرى متاخمة ومحاذية لهذه الكتيبة مثل “إبراهيم السولامي ،أحمد الجوماري ،عبد الرفيع الجوهري” واللائحة تطول .
نستطيع أن نقول إذاً أن الشعر المغربي في هذه المرحلة أي بداية الستينات ،التي يمكن تسميتها بمرحلة التأسيس ،بدأ يلملم شتاته وشرع في تأسيس دعائمه سواء على مستوى الموضوعاتي أو الجمالي ،وفي الحقيقة فالقارئ أو الناقد المطلع_ وقد أجازف_ وأقول على كل القصائد الشعرية التي كتبت في هذه المرحلة سيلفيها تتشح وتتسم بفرادة الموضوع وجمالية اللغة والصورة ،وبذلك تنتزع لنفسها ميزتين أساسيتين وهما المتانة اللغوية ونباهة السبك من جهة ،وثراء المرجعية الثقافية والفكريةمن جهة ثانية،ومما لا مراء فيه،فالنصوع اللغوي وثراء المرجعية الثقافية رافدان ومقومان أساسيان وشاحنان حراريان له،وقد توفرا بقسط وافر في المتن الشعري الستيني والسبعيني ،وعلى هذا الأساس صار بالسهولة بمكان تمييز ورَوْزِ أشعار المؤسسين من نصوصهم، فالمجاطي مثلا أسلوبه وعلامات دالة عليه،ونفس الشيء ينسحب على باقي الشعراء المجايلين له،وكل ذلك حقيقة يلخص لنا أهم المظاهر والأمائر الجمالية للمنجز الشعري الحداثي في هذه المرحلة ،التي يمكن اعتبار “مغربة“المخيال الشعري أهمها عل الإطلاق ،وذلك من خلال استحضار أمكنة وأزمنة وأحداثا ورموزا في الكيمياء الاستعارية للنص الشعري ،ومن هذا المنطلق تبلورت بشكل كبير “استقلالية” الشعر المغربي وأضحى مدرسة قائمة بذاتها بخصائصها و مميزاتها ،وستزداد نضجا وعمقا في المسار الذي سيلي جيل الرواد إلى اليوم رغم بعض التفاوتات التي يمكن أن نلمسها بين جيل الرواد و الجيل الموالي على مستوى ألموضوعاتي والجمالي بالتحديد،لكن تبقى النزعة الاستقلالية حاضرة لديهم وهذا هو الأهم ،وإن كان هذا المسار حسب بعض النقاد يطرح في بعض جوانبه الكثير من الأسئلة .
غني عن البيان أن خارطة الشعر في المغرب كمًّا وأسماء وإنتاجا واجتهادا وتجديدا وتجريبا ،حتى وصل هذا التجريب إلى قصيدة “الهايكو” التي أقيمت لها زفة كبير ،مرورا بقصيدة النثر التي هيمنت على المشهد الشعري،كل ذلك يدل على دينامية وحركية شعرية مقبولة في حدود إبقاء الشعر على قيد الوجود،لكن حين يتم البحث عن “شعرية” الشعر في هذا الكم الهائل ،وهذا الحراك الضخم ،لا نعثر عليها إلا في نماذج محدودة ومعدودة ،خاصة بعد أن دخلت وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي على الخط بشكل غير مسبوق ،وتغيرت الكثير من المعطيات وتبدلُّ السياقات المُولدة للفعل الشعري،ويذهب أحد النقاد في هذا السياق إلى حدّ اعتبار نهايات وأفول القرن العشرين هو بمثابة الحشرجة الأخيرة لزمن شعري متميز ،وأن طلائع الألفية الثالثة كانت فاتحة لزمن شعري مفتوح على المجهول،ورغم هذه النظرة التي قد تبدو قاتمة عن حاضر أو مستقبل الشعر المغربي ،إلا أن هناك أصوات شعرية من الجيل الأول ما لبثت تقوم بدور فعال في الحفاظ على توهج وألق هذا الشعر وتمنيعه من السقوط في الإسفاف والمبتذل قدر الإمكان ،وهذه الأصوات لا زالت حاضرة ناضرة تتقاسم الأجيال الجديدة المشاغبة بهجة الشعر وفتنته ،وهذه نقطة مضيئة في المشهد الشعري المغربي الذي يمكن أن تحقق ذلك التوازن بين مرجعية شعرية متينة ومتماسكة نضجت واختمرت في ظل متغيرات سياسية وتاريخية كبيرة وكان الشعر انعكاس لها،يتقدمها شعراء عظام يضيق المجال لعدِّها،ومرجعية تستمد وتستلهم مواضيعها من المعيش اليومي أو من الاجترار المعيب والمسيء للتجارب الماضية ،الشيء الذي يفرض حقيقة وقفة تأمل لتصحيح المسار ،فالشعر أكبر من أن تعبث فيه أيدي العابثين.