من الصعوبة بمكان أن نتحدث عن سوسيولوجيا التربية دون أن نذكر أحد أعمدتها وأقطابها ،الذي أبدع فيها وأغناها بنظريته التربوية الناجحة بين الباحثين والمهتمين بالحقل التربوي والتي لا زالت صامدة إلى اليوم رغم الاختلاف الزمني والسياقات والتطورات التي تعرفها المجتمعات بشكل كبير،نتيجة ما وفره لها من كلية وشمولية ،حتى أننا لا نلفي إبدالا علميا آخر يتجاوزها أو يتموقع انطولوجيا خارج مفاهيمها ،إنه عالم الاجتماع والأنتروبولوجيا المعروف “بيير بورديو“،الذي أرسى دعائم نظرية تربوية كاملة المعالم والأركان تضمنها كتاباه اللذان اشتهر بهما وهما:”الوارثون“(1965) و“إعادة الانتاج“(1970) .
وإذا كانت نظرية “بورديو “التي يمكن إجمالها بشكل عام تحت مفهوم أو مُسَمَّى “إعادة الإنتاج“تشمل كل ما هو سياسي وثقافي وتربوي،الشيءالذي جعلها نظرية متكاملة ومتماسكة،وحظيت بإشادة واسعة من طرف مختلف الدارسين والباحثين من مجالات الفكر المختلفة،خاصة علماء الاجتماع الذين عبَّروا عن تقديرهم لها ،اِلَّا أننا نحن في هذا المقام سنركز على ما هو تربوي وحسب ،وكيف أسهمت هذه النظرية في إغناء الحقل التربوي ،وشكلت فيه قفزة نوعية لا زالت تحتاج إلى من يسبر أغوارها ويسلط عليها المزيد من الأضواء ،فمنذ أن صدر “بيير بورديو كتاب“الوارثون” ،فرضت سوسيولوجيا المدرسة المقترحة من قِبٓلِهِ نفسها كنظرية علمية لافتة ،إلى حد أن هناك من اعتبرها انقلابا نقديا في المفاهيم التقليدية للمدرسة والتربية .
من نافلة القول أن الكثير من الطبقات الاجتماعية تعتقد أن التربية المدرسية عموما يمكن أن تسمح للأطفال باكتساب ثقافة كونية تساعدهم على تكوين شخصيتهم المستقلة ،أو هكذا يتصورون على الأقل ،وأن هذا التعلم كان مفروضا أن يتحقق في إطار مؤسسة محايدة لها قوانينها الخاصة المستقلة عن كل أشكال الهيمنة ،وعن الثقافات الاجتماعية السائدة ،لكن “بيير بورديو” قلب هذا الاعتقاد أو هذا التصور رأسا على عقب ،وانبرى لتصحيح هذه الرؤية الخاطئة التي ترسخت في ذهن هذه الطبقات ،وجعل مسألة استقلالية التربية المدرسية على المحك ،حيث اعتبر أن المدرسة ليست بمنأى عن نفوذ ثقافات الطبقات المهيمنة خاصة البورجوازية منها بأشكال وطرق مختلفة ،فقد يبدو ظاهريا أن النصوص أو البلاغات التي تقدمها المدرسة أنها شاملة وكونية ،رافضة الاعتراف بالتميز الثقافي ،الا أن في العمق وأثناء الممارسة البيداغوجية تتحول كآلية لإعادة الإنتاج وإنتاج الفوارق الاجتماعية ،وكأن المدرسة بهذه الشاكلة لا تقبل الا المواقف والقيم والعادات الخاصة بطبقات ذوي النفوذ ،فالتحليل والتعبير الشفهي وطرائق العمل وإصدار الأحكام داخل المدرسة ،كلها آليات تسمح بانتقاء تلاميذ الطبقة المهيمنة وإقصاء الآخرين ،ومن هذا المنطلق يظهر أن كل الإصلاحات التي يشهدها النظام التربوي ليست إلا أوهام وحِيَل ،فهي لاتقوم سوى بتجديد ميكنزمات إعادة الإنتاج قصد تثبيتها وتعميقها ،والحاصل أن مدرسة إعادة الإنتاج لا تنتج أفرادا أحرارا ومستقلين ،لأن النقد المدرسي الذي يعتمد أثناء الانتقاء هو نفسه جزء لا يتجزأ من بيئة المدرسة ،خصوصا وأن الفوارق في التمدرس عندما ينظر إليها على أنها فوارق في الاستحقاق فإن ذلك يضفي الشرعية على اللامساواة الاجتماعية التي يصدر عنها ويعيد انتاجها،ولذلك عندما كان الاعتقاد في العقود الماضية أن الفوارق في التمدرس ترتبط أساسا في عدم تكافؤ الفرص في ولوج النظام المدرسي ،فإن التحقق المتنامي لمدرسة واسعة ومفتوحة للجميع لم يؤكد ابدا تكافؤ الفرص والحظوظ في التعلم ،فالمدرسة التي نخالها عادلة ومنصفة تبدو غير ذلك ولكن بطريقة مغايرة.
وصفوة القول ،ورغم أن الخوض في نظرية “إعادة الإنتاج“لهذا العالم الفذ تحتاج إلى مناقشة مستفيضة وعميقة نظرا لتشعبها وكثرة المفاهيم التي تؤطرها وتؤثث خلفياتها الثقافية والسياسية ،أو كذلك إلى نقد بنَّاء،لم لا، فإن لا مندوحة من الإقرار كما أقرّ العديد من ذوي الاختصاص فى السوسيولوجيا بشكل خاص ،أنه لا توجد في الواقع الراهن نظرية أخرى يمكن أن تكون في الوقت ذاته نظرية للمدرسة ،نظرية للحراك الاجتماعي ،نظرية للمجتمع ونظرية للعمل،وهذه المقومات كلها هي التي كانت من وراء نجاح هذه النظرية،وإن بدأنا نلاحظ في السنوات الأخيرة شيء من الابتعاد والنأي عنها ،نظرا لظهور بعض الاستثناءات البارزة التي عادت تستأثر باهتمام الباحثين في الشأن المدرسي والتربوي خاصة ونحن نعلم أن المدرسة أبعد ما تكون متجانسة بالرغم أن النظام التربوي يخضع لقوانين عامة.
![]()
