لانجازف إذا قلنا أن رواية “إلارهابي“للروائي والكاتب الصحفي “الحسان عشاق” رواية ذات مواصفات وملامح خاصة ،سواء من حيث الموضوع الذي تطرقت إليه أو من حيث أسلوب الكتابة السردية الذي تم انتهاجه لكشف النقاب على حيثيات وملابسات موضوع شائك يؤرق جميع دول العالم ،ألا وهو موضوع “الإرهاب” الذي طالما كان حكرا على فئة معينة من الكتاب والمثقفين والدارسين ،الذين أشبعوه تحليلا وتفسيرا ودراسات وأبحاث حد التخمة من حيث أسبابه وخلفياته وأبعاده والظروف التي يقتات منها وتغذيه والبيئة الحاضنة التي تفجره،وما إلى ذلك،وقليل هم الذين قاربوه من منظور أدبي صرف من رواية أو شعر أو مسرح أو قصة أو ماشابه، ويمكن أن نذكر في هذا الخضم على سبيل الذكر لا الحصر ،“رواية القوس والفراشة“للأديب المغربي “محمدا الأشعري” ،ورواية“أصابيع لوليتا” للروائي الجزائري ” واسيني الأعرج“،ورواية” جزيرة الورد “للروائي المصري “ابراهيم فرغلي “..
إن ما يميز الروائي “الحسان عشاق ” في هذه الرواية هو أنه لم يتناول هذا الموضوع في روايته تناولا مباشرا،ولم يدخل في صلبه منذ الوهلة الأولى،ولا تكاد تستشف من صفحات الرواية الأولى ما يوحي بأن جوهر الرواية أو القضية هو” الإرهاب“،وهكذا استحب “الروائي عشاق” نهج “أسلوب المباغثة” مع الملتقي أو القارئ ،حيث قبل أن يخوض في هذا الجوهر أبى إلا أن يذهب بنا في رحلة بانورامية في دهاليز وسراديب مجتمع الهامش الذي يجسده “حي الجعبور“في الرواية ،حيث الهشاشة والفقر لا تخطئهما العين ،و أن يطوف بنا في أزقة وشوارع ودروب هذا المجتمع المنسي ، الذي تنتعش فيه كل أشكال الفوضى واللانظام ،وتزهر فيه كل الظواهر والسلوكات الاجتماعية الخطيرة، صورة فسيفسائية ملتقطة بعناية للتناقضات الصارخة وتفاصيل المعيش اليومي التي تتمدد في هذا الهامش والتي يتعايش معها أصحابها بكل أريحية ،وأمست مشاهد مألوفة معتادة ،وهكذا لم يترك صاحب الرواية ظاهرة اجتماعية أو سلوك أو ممارسة بشرية منتشرة في هذا الفضاء الرحب إلا وطرق بابها بأسلوب سردي غارق في الاستعارات والترميز اللذين يشاغبان القارئ وكأنهما يعطيان لنفسهما حق مهاجمته في عش طمأنينته،فمن تجارة المخدرات التي تنشط بشكل كبير في مثل هذه الأماكن إلى انتشار أوكار الدعارة والاغتصابات، والباعة المتجولين والحرف والمهن التي يقتات بها قاطنيه ،والبطالة بكل أنواعها،والسرقة والعربات المجرورة، والصخب والضجيج الذي لا ينقطع أوَّارهما على مدار الساعة والتسول، والتسكع والتشرد، وانتشار القمامة والقاذورات على جنبات الشوارع وكأن هذه الطينة من البشر لا تستحق النظافة والعيش في فضاء نقي وهادئ، هذا ناهيك عن الكلام الساقط والنابي الذي تلوكه الألسنة دون هوادة، ويعتبر عملة رائجة في أوساط الشباب المهلوِس،والصراع المحموم الذي تخوضه الشرطة مع هؤلاء طوال اليوم..ورغم أن الكاتب تفنَّن وأبدع في رسم صورة سوداوية قاتمة لهذا الواقع البئيس والمشمئز، اِلا أنه لم يفته أن يقتنص منه مشاهد تحمل بين ثناياها قيما إنسانية ربما لن تجد لها أثرا إلا في مثل هذه الفضاءات، كالتضامن بين أهلها في الأفراح والأتراح ، والمساعدات المتبادلة فيما بينهم ،فالإنسان في هذه الأماكن ليس كله شر على كل حال ، وهنا أستحضر تلك الخدمات الكبيرة التي تقدمها السيدة“حادة “لنساء الحي اللائي يجدن فيها حضنا دافئا يستمع لآهاتهن ومعاناتهن،وتوفر لهن فضاءا لتصريف مشاكلهن وهمومهن مع الأزواج أومع غيرهم ،وقس على ذلك من بعض أشكال التآلف والتآزر السائدة بين أبناء هذه الأماكن الهامشية والمعزولة التي لا يتسع المجال لذكرها كلها،واللافت حقيقية في رصد نبضات هذه المشاهد في رواية “الإرهابي“،هو أن الكاتب “الحسان عشاق“لم يجنح إلى لَيِّ عنق اللغة وركوب موجة التكلف والتصنع للوصول إلى المبتغى ونقل الصورة بأمانة كما هي بدون خلفيات أو قيود وبدون مساحيق أو تنميق أيضا،وبجرأة فريدة تعكس إلى حد بعيد شخصية الكاتب المتمردة على الواقع الذي يعايشه يوميا ، ولذلك تجده يسمي الأشياء بمسمياتها ،ويكشف الستار عن طابوهات اجتماعية لا زالت تحتاج إلى من يسلط المزيد الأضواء عليها،وهذا ربما نابع من تأثره بالكتابة الصحفية التي يمارسها بالموازاة مع الكتابة الأدبية بمختلف أشكالها ،فالكتابة الصحفية تعلمك كيف تنقل الواقع كما هو وتحري الحقيقةو مطاردة الأحداث والوقائع بأكبر قدر من الموضوعية والشفافية ،وهذا ما يجعل كل ما كتب في هذه الرواية قريب إلى حد بعيد من الواقع المعيش،لكن دون أن يكون هذا النقل حرفيا من طبيعة الحال، فالرواية تنأى بنفسها عن الأسلوب الإنشائي التقريري وتنحاز بشكل كبير إلى الحكي الماتع الذي ينهل من تشابك الأحداث وتداخل الشخصيات بلغة سردية مشوقة،صحيح أن كل كاتب رواية له لمسته الخاصة به ،ولمسة الكاتب هنا واضحة في هذه الرواية حيث تجده يفترض تغيير بعض المعالم الحقيقية للحكاية وتجعلها تتناغم بشكل مغاير ،فالروائي من دون شك يهوى الالتباس والمجازفة ،ويلج كل ذلك بكل خططه المتمردة هذا الشكل الفاتن المدهش الذي يسمى الرواية.
بعد تقليب كل مواجيع المجتمع “الجعبوري“وكل ما يمور في ثناياه من معاناة ومآسي التي تجسدها شخصيات متعددة في الرواية،انتقل بنا الروائي “الحسان عشاق“إلى عالم السجون وما يعتمل فيه ،السجن فضاء خصب لكل الممارسات والسلوكات المشينة والتصرفات المريضة التي لا يمكن أن تخطر على بال،سواء التي تصدر من طرف السجناء أنفسهم أو من الحراس والإداريين،أمور خطيرة تحاك في ظلمات الأقبية والعنابر ولا من يحرك ساكنا ،لكن قد يكون من حسن الصدف أن تتقاسم زنزانة مع معتقل رأي أو صحافي أو كاتب أوفقيه ،فربما يغير لديك الكثير من المعطيات والمفاهيم والتصورات حول نفسك أو حول واقعك أو حتى على العالم برمته ،ويمكن أن تخرج من غياهب السجن إنسانا مثقفا متنورا بعدما أن تكون دخلت إليه مجرما أميا جاهلا ،وهذا كثيرا ما يحدث فلقد حصل العديد من السجناء في السجون على شواهد عليا،وغيَّر الناس من طباعهم وثقافتهم وتصرفاتهم الشقية التي كانت سببا في زجهم في السجن ،فقد يكون في بعض الأحيان السجن مدرسة للتثقيف والدراسة لا تضاهيه مدرسة ،ولكن في المقابل قد يكون قناة لتصريف أفكار متطرفة وخطيرة ،قد تجعل منك مجرما أو إرهابيا في المستقبل ،دخلت إلى السجن مجرما ويمكن أن تخرج منه مشروع مجرم وهذا هو الخطير،وهذا ما حدث مع بطل رواية“الحسان عشاق“،“فالصو“،الذي غسل الشيخ “عبد السلام الباز“دماغه في السجن وشحنه بفكر متطرف ينضح حقدا وحنقا على أصحاب التيارات الفكرية والايديولوجية المخالفة لتوجهه الديني والفكري السائدة في المجتمع، واستدرجه على مراحل لتنفيذ عمليات إرهابية في حق أُناس أبرياء بدون سبب وجيه عدا أنهم، ينتمون إلى تيار يخالفهم الرأي أو المعتقد، أو كل ما يعتبرونه فاسدا ويفسد المجتمع ويبعده عن دينه الصحيح والمقصود هنا بالتحديد هم العلمانيون والملاحدة ومن يغترف من ثقافتهم وفكرهم، وبالتالي لا بد أن يكون مصيرهم هو القتل ويكون جزاؤهم هم من هذه العمليات هو الفوز بالجنة أو الفردوس الأعلى،هذا ما تقول به أدبيات الجماعات الدينية المتطرفة والمتشددة التي ترى أن أغلب أفراد المجتمع خارجين عن الملة وبالتالي وجب فيهم الجهاد،استطاع“فالصو“أن ينفذ عمليته التي تحمس إليها كثيرا،وحقق حلمه وأصبح بطلا في أعين شيخه ،لكن يبدو قبل أن يفوز بالجنة ،لا بد أن يعود إلى برودة السجن وأن يستسلم لجحيمه ،الذي لن يدخل إليه هذه المرة بتهمة بسيطة ،بل بتهمة ثقيلة وهي تهمة الإرهاب.