علاقة الثقافة بالسياسة في الوطن العربي لم تكن يوما علاقة طبيعية وود أو علاقة انسجام وتكامل ، فنكاد نقول أنهما دائما في حالة صراع وتباعد مستمرين ونفور متبادل ، فالأولى تجافي الثانية ، والثانية كلما نأت بنفسها عن الأولى ، وجدت المجال مواتيا للاشتغال بعيدة عن أعين النقد والمتابعة والتصحيح ، هكذا يبدو المشهد في هذا الوطن ، هذا المشهد المقلوب والاستثنائي الذي يسبح ضد التيار كعادته ، فأهل السياسة يخافون اتصالهم بالثقافة وإشرافهم عليها ، لأنهم يعتبرون السياسة لا تضع يدها في شيء الا لتخضعه لها ، أو لتشكله على الصورة التي تهواها ، وتساير طموحاتها ، ولا تهمها الحقيقة بقدر ما يهمها التأثير . وعلى الرغم من كل ما يمكن قوله عن علاقة الثقافة بالسياسة في الوطن العربي وعن الصورة القاتمة التي يمكن أن نرسمها لها ، فإن الثقافة تبقى في النهاية هي التي تشق الطريق للسياسة وهي التي تضع أسسها ولبناتها وترسم لها مسارها ، فإذا استتب الأمر لها أصبحت في الحال سياسة ، ومهما بدت مبادئ هذه الثقافة وطلائعها بعيدة عن السياسة ، فإنها لا تلبث حتى تفضي إليها ، فيصبح لكل معسكر سياسي مذهب ثقافي أو يكون لكل مذهب ثقافي حزب سياسي يحتضنه ، وإذا لم يتحقق شيء من هذا فلا يجدر بنا أن نتحدث عن شيء إسمه السياسة في هذا الوطن ، وهنا يصح لنا أن نتحدث عن شيء آخرغير السياسة ، فالبعودة إلى التاريخ ، لا بد وأن تجد نماذج وصور لحالات من التشنج والتوتر التي هيمنت على هذه العلاقة ، والعديد من الكتاب والشعراء والمثقفين الثائرين والمتمردين الذين شقوا عصا طاعة السلطات ، وأدوا ثمنا غاليا نتيجة مواقفهم الشجاعة التي كانت تقف في وجه الاستبداد والتسلط والقهر ، ولو أردنا القيام بجرد لأسماء الشعراء والكتاب الثائرين على واقعهم وعلى السلطة عامة على مر التاريخ العربي من المتقدمين أوالمحدثين ، فلن تسعفنا هذه الورقة ، لكن حقيق بنا مع ذلك أن نذكر بعض الأسماء الذين بصموا التاريخ الثقافي العربي والذين سجلوا أسماءهم في خانة المعارضين والمتمردين على أنماط الحكم السائدة في أوطانهم ، ومنهم على سبيل الذكر لا الحصر ، نزار قباني ، سميح القاسم ، صلاح عبد الصبور ، أمل دنقل وعبد القادر الشاوي ، وعبداللطيف اللعبي واللائحة طويلة… وتعتبر في هذا السياق قصيدة الشاعر الكبير مطران خليل مطران الشهيرة التي واجه بها السلطات الحاكمة حين ضيقت الحصار حول آراء المفكرين والشعراء مثالا حيا على انتفاضة هذا الشاعر وعدم الرضوخ للتوجهات الرسمية التي تكبل حرية الإبداع والتعبير عن الرأي ، والتي يقول في بعض أبياتها : كسروا الأقلام ، هل تكسيرها يمنع الأيدي أن تنقش صخرا ؟اقطعوا الأيدي هل تقطيعها يمنع الأعين أن تنشر شذرا ؟ اطفئوا الأعين ، هل إطفاؤها يمنع الأنفاس أن تصعد زفرى ؟ أخمدوا الأنفاس هذا جهدكم وبه منجاتنا منكم ، فشكرا . ولعل أيضا من أشهر قصائد نزار قباني السياسية التي أثارت ضجة كبرى قصيدته “خبز وحشيش وقمر” التي هاجم فيها تواكل العرب ، هذه القصيدة التي يمكن اعتبارها بمثابة منشور سري ممنوع هي ” هوامش على دفتر النكسة “والتي هاجمه فيها بعض الكتاب واستعدوا عليه السلطات في بعض الدول العربية منها مصر بالخصوص لمنع قصائده ومنع دخوله إليها هو نفسه ، ونجحوا في تلك الفترة ، من تحقيق هذا المبتغى ، نذكرمنها هذه الأبيات : أرواحنا تدور بين الزار ، والشطرنج ، والنعاس ، هل نحن خير أمة أخرجت للناس ؟ لو كنت أستطيع أن أقابل السلطان ، قلت له يا سيدي السلطان كلابك المفترسات مزقت ردائي ومخبروك دائما ورائي ، كالقدر المحتوم ، كالقضاء يستجوبون زوجتي ويكتبون عندهم أسماء أصدقائي …هذه جملة من القصائد التي تجسد المواقف الخالدة لشعراء أثرت أشعارهم بشكل أو بآخر في تحريك المياه الراكدة في الوطن العربي نحو الانتفاضة ، ومثلت نضالا مستميتا ضد الاستبداد ، والمطالبة بالحرية والديموقراطية ، شأنهم في ذلك شأن الكثير من المبدعين الذين أوصلوا صوتهم الثائر والمتمرد وغير الراضي على الواقع الذي يعيشون فيه من خلال أجناس أدبية أو إبداعية أخرى غير الشعر، وكانت كلماتهم صداحة واضحة وأهدافهم ناصعة لا لبس فيها ولا ازدواجية في الخطاب ، وهذا ما أنتج لنا حقيقة تراكما أدبيا وفكريا غنيا يعكس تلك الدينامية والحركية التي كانت سائدة في هذه المرحلة التي عاشت فيه هؤلاء الأسماء اللامعة التي ذكرناها ، وهكذا في الوقت الذي كان من المفروض ومن الطبيعي أن تأخذ الأمور منحى تصاعديا ، وتزداد حدة الاحتجاجات والوقوف في وجه التسلط والاستبداد كاستمرارية لما تم تحقيقه سابقا ، على العكس ، نلاحظ منذ مدة ليست باليسيرة تراجع مريب لصوت الشاعر والمثقف عامة ، ولم نعد نعثر على قصائد قوية نضالية ضد كل أشكال التخلف والفقر كالتالي تحدثنا عنها سلفا ، أو إبداعات أخرى ، تعكس نفسا ثوريا أو إرادة حقيقية للتغيير وتأسيس مجتمع الديموقراطية وحقوق الانسان الا فيما نذر ، الشاعر العربي والمثقف العربي اليوم يبدو مستسلما أمام سياط التسلط وترك الحبل على الغارب ، فمنهم من جذبتهم إغراءات السلطة ، وأصبحوا منظرين لأحزاب متخلفة لا تحترم أدنى شروط الديموقراطية والممارسة السياسية الحقيقية طمعا في منصب سياسي ، وأعتقد أن فئة أخرى وجدت ضالتها في موضوعات أخرى بعيدة عن السياسة وهمومها وصداعها وأوجاعها . وبهذه الصورة من المؤكد أن الفجوة بين السياسة والثقافة ستزداد اتساعا ، ومن الصعوبة الحديث عن علاقة بينهما تعود بالنفع عليهما هما الإثنين أولا والمجتمعات العربية ثانيا ، وهذا كله فيه خسارة للجميع على كل المستويات ولا شك أن هذا سيطيل أمد تخلف هذه الشعوب إلى أجل غير مسمى ، فالشعوب المتقدمة والتي قطعت أشواطا كبيرة على مدارج الديموقراطية والتنمية ، لم تكن لتصل إلى هذا المبتغى لو لم تكن علاقة الثقافة فيها بالسياسة في أحسن حال، ولو لم يكونا في تناغم وانسجام تامين فيما بينهما ، قد يحدث أن يقع هناك اصطدام أو مواجهة حادة بينهما بين الفينة والأخرى وهذا أمر طبيعي ، لكن سرعان ما تعود الأمور إلى نصابها والمياه إلى مجاريها ، وذلك لأن هذه الشعوب وساساتها يمتلكان ناصية ثقافة حسن تدبير الخلاف والأزمات ، وبالتالي الدفع بعجلات التقدم إلى الأمام لأن في مخيالهم المصلحة العامة ومصلخة شعوبها فوق كل اعتبار، فإلى متى ستبقى العلاقة بين الثقافة والسياسة في الأوطان العربية تعيش قصة العشق الممنوع ؟