الاعتصامات والمظاهرات الطلابية في العالم..نحو تأسيس وعي عالمي بالقضايا الإنسانية العادلة

  ما يحدث في الجامعات العالمية في أمريكا وأوروبا اليوم من احتجاجات واعتصامات ،و إذا أضفنا إليها مختلف المسيرات والمظاهرات التي تجوب شوارع كبريات المدن العالمية تنديدا بالحرب الهمجية والبربرية التي تشنها إسرائيل على غزة لما يربو عن سبعة أشهر لا يمكن تفسيرها إلا بشيء واحد وهو أن هناك صحوة ضمير أو بوادر تشكيل ضمير عالمي جديد  في الأوساط الاجتماعية بمختلف أطيافها وبين الفئات المثقفة التي ترفض هذه الحرب وتجنح إلى السلام  وتنتصر للعدالة ونبذ الظلم ،والوقوف في وجه الغطرسة الإسرائيلية ،وتوقيف هذا الدعم غير المشروط من طرف قوى غربية وجدت في إسرائيل تلك الدولة الوظيفية التي من شأنها أن تخدم أجنداتها  ومصالحها الاستراتيجية في المشرق العربي بشكل خاص ولم لا في العالم الإسلامي بشكل عام، كل هذه الحركية الطلابية التي يخوضها الطلبة اليوم في تلك الجامعات هي إشارات قوية على أن السيل بلغ الزبى ،وأن كل تلك المجازر الشنعاء التي تقترفها الدولة الصهيونية قد بلغت مداها وأصبح العقل البشري السوي لا يطيقها ،لأنها تفوق الخيال،وأن  أيضا آن الآوان لوضع حد لهذا الدعم العسكري واللوجيستيكي  الذي يقدم لهذا الكيان المتغطرس ،و هذا الغطاء الذي توفره هذه القوى الغربية لدولة إسرائيل يجب أن يزول في أقرب وقت ،ويبدو أن المجتمع الدولي المدني بالتحديد قد ضاق ذرعا من هذه العجرفة الإسرائيلية ومن سياستها الوحشية والعنصربة في حق الشعب الفلسطيني،يوم عن يوم تتعالى أصوات من مختلف أنحاء العالم تدعو إلى  حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره،وإيقاف هذه الحرب المجنونة التي أتت على الأخضر واليابس ،وهذا في الحقيقة ليس بالأمر الغريب أو الجديد بالنسبة للجامعة كمؤسسة تعليمية تثقيفية تنويرية ،بل كل ذلك هو من صميم أهدافها وغاياتها ،ففضلا عن دورها التعليمي والبيداغوجي والتحصيل العلمي والمعرفي، فالجامعة هي في العمق فضاء رحب لإنتاج القيم الإنسانية وللفكر والإبداع والنقاش الحر ،فضاء لبلورة الوعي الثقافي والسياسي في المجتمع ،فضاء للصراع الفكري والإيديولوجي وإنتاج النخب ،فضاء للاختلاف وبناء التصورات ،فالجامعة هي المحرك الأول للتغيير،والتدافع الفكري وإنتاج الخطاب ،فمن الصعب على أي مجتمع أن يتغير أو أن يتطور إذا كان الفضاء الجامعي راكدا وجامدا ،فأولى بوادر التغيير تأتي من الجامعة ،فإلى عهد قريب كانت الجامعة هي المزود الرئيسي للأحزاب السياسية بالطاقات الشابة حسب الانتماء الايديولوجي التي يمكن استثمارها مستقبلا في وظائف سياسية معينة وكان الصراع حول استقطاب تلك النخب يعرف منافسة محتدمة بين الأحزاب السياسية ،فإذا أردت أن تقيس منسوب الوعي والنضج الثقافي والسياسي والحقوقي في مجتمع معين ،ما عليك سوى العودة إلى جامعته وتنظر بعين فاحصة إلى كل ما يروج فيها ،من نقاشات وأفكار وتنافس إيديولوجي ،لكن اليوم يبدو الأمر مختلفا نوعا ما خاصة في الدول المتخلفة ذات الأنظمة الإستبدادية التي تريد إخلاء الجامعة من كل النقاشات والأنشطة الثقافية والسياسية التي يمكن أن تفرز لنا طالبا واعيا ومستوعبا للواقع وتحدياته،طالب يمكن أن يكون هو حجر الزاوية في كل تغيير منشود في إرساء قواعد ودعائم دولة الحق والقانون في إطار نظام ديموقراطي يضمن العدالة الاجتماعية والحقوق لأصحابها ، لكن الأنظمة المستبدة في كل بقاع المعمور تخاف على مصالحها وتوثر الحفاظ على الوضع كما هو.والواقع أن العديد من الأنظمة المستبدة نجحت في تقليص أو تقزيم بعض من الأدوار الحقيقية للجامعة على مستوى التكوين الثقافي والسياسي ،وفي بعض الأحيان قد تجد دولا ديموقراطية وعتيدة في هذا المجال ومع ذلك فهي أيضا تخشى من الجامعة وما يأتي منها،وإن كان ذلك أقل حدة مقارنة مع الدول المستبدة ،ولقد تابع العالم كيف فضت بعض الدول اعتصامات الطلاب في أعتد الجامعات ،وكل هذا حقيقة يطرح أكثر من سؤال حول تراجع الحريات حتى في هذه الدولة الديمقراطية، وأن قول كلمة الحق فيها أصبح يضرب لها أكثر من حساب.

إن  احتجاجات واعتصامات الطلاب في الجامعات العالمية التي نراها اليوم من دون شك تعيد إلى الأذهان تلك الاحتجاجات التي أوقفت عجلة الحرب الأمريكية في الفيتنام قبل خمسين عاما،وهذا أكبر دليل وأكبر رد على الذين يستصغرون هذه الاحتجاجات ويقولون أنها لن تفضي إلى أي نتيجة ،ففي الحروب والسياسة كل شيء ممكن ،وهذا الذي يقع في الجامعات من الممكن أن يغير الكثير من المعطيات على أرض الواقع ،لأن أغلب الدول الداعمة للدولة اليهودية، مهما بلغت درجة تشددها حيال هذه الدولة فإن الذين يحكمونها يخافون على مستقبلهم السياسي ،فالأحزاب التي تحكم هذه الدول تخشى من عقاب المواطنين الرافضين للحرب بعدم التصويت لصالحها في أقرب استحقاق ممكن ،ولذلك تلفي هذه الأحزاب دائما تضع في حسبانها هذه المعادلة ،فهي تلعب على الحبلين ،تريد إرضاء الدولة العبرية والمحافظة على قاعدتها الانتخابية في آن واحد، والتاريخ لا زال يحتفظ بذكريات سيئة لحكام أمريكا ،فلقد أفقد الرئيس الأمريكي الأسبق ليندون نيكسون الكثير من مؤيديه ،وقاد ذلك إلى هزيمة الولايات المتحدة الامريكية في حرب الفيتنام،وهذا درس ربما لن يخفى على حكام هذه الدولة،فالتاريخ يمكن أن يعيد نفسه ،ويبقى المطلوب هو أن يزداد هذا الضغط الطلابي والجماهري على هذه الأحزاب الحاكمة حتى تعدل من مواقفها تجاه إسرائيل ،لأن هذا هو الرهان الذي يمكن الاعتماد عليه نتيجة تخاذل الأنظمة السياسية العالمية مع استثناءات قليلة في دعم الشعب الفلسطيني في هذه الحرب القذرة.

وعلى أية حال فسواءا ساهمت هذه الاعتصامات وهذه المظاهرات في إيقاف الحرب أو العكس ،فإنها على الأقل تمثل تحولا جوهريا في الفهم الشعبي الغربي للصراع الاسرائيلي الفلسطيني ،بعيدا عن غسل الدماغ الذي يمارسه اللوبي الإسرائيلي على مدار قرن من الزمن في الغرب ،الذي غيب حقائق  هذا الصراع عن عيون أجيال كثيرة وشكلت سردية مغلوطة لتاريخ هذا الصراع وتفاصيله الكثيرة ،وبناءا على هذا الكشف أو الفضح لا بد أن يتأسس وعي جديد بالقضية الفلسطينية الشيء الذي سيجعلها من دون شك تأخذ مجرى آخر،يمكن أن يؤدي بنا إلى استقلال هذا البلد ،خاصة وأن أمام كل هذه التضحيات الجسيمة التي قدمها ولا زال يقدمها هذا الشعب سواء في الضفة أو القطاع ،فإن لم تكن النتيجة هي الاستقلال التام ،فإن من منظوري الخاص مهما حقق الشعب الفلسطيني من أهداف وتعاطف دولي ،فإذا لم يحصل على استقلاله فكل هذه التضحيات تبقى بدون قيمة.

Loading

Share
  • Link copied