التحديات التي تعيشها الأمة العربية ، والأزمات التي تنخر جسدها من الداخل منذ زمن سحيق ، وحالة التشرذم التي تعرفها ، وصارت تلازمها كالظل ،تطرح أكثر من علامة استفهام حول مصير هذه الأمة ومستقبلها في الأفق المنظور على الأقل ، وكيف سيكون حضورها ضمن المنظومة الدولية التي لا مكان فيها للضعيف أو الفاشل ، لماذا عجز العرب وفشلوا فشلا ذريعا في تشخيص أمراضهم وعلاتهم ، والبحث عن الحلول المناسبة لها ؟ إلى أي مدى سيبقى العرب الحلقة الأضعف في صياغة القرارات الحاسمة والمؤثرة في السيرورة التاريخية العالمية ؟ إلى متى ستبقى المجتمعات العربية معتنقة الرتب المتدنية على سلم التنمية والديموقراطية ؟
لا مرية أن هذه الأسئلة تعيد إلى الأذهان وإلى الواجهة إشكالية النهضة العربية وعوائق الإقلاع الديموقراطي الحقيقي ، الذي طال أمد انتظاره ، ويعيد أيضا إلى الواجهة السؤال القديم الجديد ، ألا وهو الأسباب الحقيقية المساهمة في تدهور وتخلف الشعوب العربية ، رغم كل مظاهر المدنية والتحضر التي نراها اليوم تكتسحها اكتساحا . وعلى الرغم من العدد الهائل من الوصفات التي قدمت كمفاتيح ومداخل وكمنطلقات موضوعية لتجاوز هذه الحالة الشاذة التي ترفل فيها هذه المجتمعات ، والتي للأسف الشديد لم يطبق منها أي شيء على الإطلاق ، وبقي الحال على ما هو عليه ، ومن الصعب اليوم أن نضيف شيئا إلى ما قيل إلى ما كتب سلفا ارتباطا بهذا الموضوع ، فلأن الأزمة عمرت طويلا فكان من البديهي أو من المنطقي أن يصاحب ذلك كتابات واقتراحات ونداءات لحلحلتها ، لكن يبدو أن أغلبها ذهبت أدراج الرياح .
إذا كان لابد من هذا التقديم لمعرفة أن سؤال تخلف العرب دائما يحمل راهنية خاصة ، ودائما حاضر بقوة في جل النقاشات الفكرية والسياسية ، ويحظى بأولوية عز نظيرها في أجندة الكثير من المفكرين والمثقفين العرب ، فاليوم طفى إلى السطح سؤال عريض وجوهري لا يخلو من أهمية ووجاهة مقارنة مع سابقه ، وهو حول المسار الذي يأخذه العرب اليوم ، خاصة بعد العديد من الأحداث الأخيرة ، ومنها العدوان الإسرائيلي على غزة بالخصوص ، والتي أظهرت أكثر من أي وقت مضى هشاشة المواقف العربية ووجهها الكئيب والباهت أمام أنظار العالم ، فأين يسير العرب اليوم ؟ هذا إن كان لا يزال يحق لنا أن نخاطبهم بعد هذا الذي نشاهده ونلمسه في الآونة الأخيرة “كلا” أو “وحدة ” أم أن هذا السؤال نافل لأنهم منذ زمن لا يسيرون ، بل ينزلقون ويغرقون ، أو لنسأل بالأحرى: ترى هل نهاية التاريخ فرضية لا تجد من يجسدها ، ويقدم الدليل الساطع عليها أفضل من تاريخ العرب ؟ فكيف سيكون مستقبل العرب وهم على هذا الوضع ؟ إن الحديث عن المستقبل هنا ، الغاية منه ليس مستقبل العرب ككيان قائم تذروه الرياح ، أو ككتلة من البشر تقتات على الفتات وتنام قرينة العين وهي محاصرة بين حدود هذه الكائنات السياسية التي تسمى مجازا دولا ، وإنما مستقبل تصبح فيه هذه دولا فاعلة وديموقراطية وقوية اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا ، تمتلك أسباب الدفاع عن ممتلكاتها وثرواتها ، يحظى فيها العنصر البشري باهتمام خاص ، حيث حقوقه مكفولة وكرامته محفوظة ، خاصة ونحن نعيش تحولات عميقة وخطيرة تهم الكوكب الأرضي تكنولوجيا واقتصاديا وسياسيا، فقد بدأت ترسم ملامح عالم جديد لا مجال فيه للضعيف ، وربما قد تعصف بكل ما تبقى لهذه الأمة من مقومات وجودها الحالية ، والتحليل ينبغي أن يصاحب هذه التحولات ويعينها ، ويكشف القوى الفاعلة فيها ، والتي تجر العالم نحو صيرورة تغير لا ترحم أحدا ، والخطير في الأمر هو أن كل هذه الأمور من حولها تحدث وهي غارقة في سبات عميق ، خارج الزمان والمكان ، وخارج التطور البشري والحضاري ، أليس هذا كله مدعاة للخوف على مصير هذه الأمة التي يظهر مما لا يدع مجالا للشك والريبة أنها دخلت في متاهة يصعب الخروج منها ، ألا يمكن أن يشكل هذا حافزا للبحث في مشروع مستقبلي تقدمي لها؟
إن المتأمل لحال الواقع العربي اليوم ، من الصعب أن يطمئن لمستقبل مشرق له، فتوالي السنوات العجاف من الجمود والركود على كل الأصعدة تقريبا جعلت الإنسان العربي تراوده أحاسيس سلبية حيال هذا المستقبل ، فمهما حاول الكثيرون تغيير هذه النظرة السوداوية ولو بالكلام والخطابات ، فلن يتوفقوا ، لأن الإنسان العربي اليوم أكثر إدراكا أن الفكر الإيديولوجي الموحد في العالم العربي كله ، سواء منه الذي وصل إلى الحكم أو الذي لم يصل بعد ، قد قاده إلى حالة من التوهم والضياع والخراب ، وأصبحت فيه حبال هويته مشتتة على قارعة الطريق ، وصار لا يعرف من هو ، وأي معنى يسبغه على حياته ، وأمست علاقته بالعالم ونظرته إلى الآخر لا تمر الا عبر جسور توهماته وخرفاته ، كيف يمكن أن يلمس هذا الانسان العربي هذا المستقبل وهو يعي تمام الوعي أن كل السياسات المتبعة في بلاده اقتصاديا أو سياسيا أو اجتماعيا ، تغترف من معين العجز ، والاتكال على الغير ، ماذا يمكن أن يضيفه العرب للعالم والوضع على هذه الشاكلة ؟ لقد صار العرب وكأنهم قناديل تتدلى من سقف الإيديولوجيا لتضيء الكون ، أو كشجرة اللبلاب التي لا تعيش الا بالتعرش والاتكاء على الغير ، كيف يمكن أن نقنع الانسان العربي بمستقبل مشرق ، وهو يعلم أن الإرث النظري والسياسي الذي تملكه بلاده لا يحمل بصمتها ولا يسعفها على بلورة سياسات أو استراتيجيات اقتصادية حقيقية قادرة على انتشالها من التخلف ؟ كم هي ضحلة تجربه المجتمعات العربية في هذا المجال . لماذا لم يحدث مثلا عند العرب نفس التحول العميق الذي آل إلى تفكك موضوعة “الحق ” في العصر الحديث ، ليبدأ تمييزها عن ” القانون ” الذي ترتب عنه تأسيس الفكر الحقوقي السياسي على أسس جديدة تستجيب لحركية التحول الاجتماعي ؟ كيف يمكن أن نتحدث عن شيء اسمه المستقبل العربي الآمن والمستقر في ظل وجود مجتمعات عربية لا تقبل ولا تعترف بالتعددية ، ليس العرقية وحسب ، كما قد ينصرف إلى أذهان البعض ، وإنما أيضا التعددية الفكرية والمذهبية واللغوية ، فالمنطق التاريخي السليم يدحض أطروحة التعصب ويقر أن المجتمع لا يكون واحدا الا إذا كان متعددا ، وعدم الاعتراف بتعددية المجتمع سبب رئيسي في فقدان وحدته وتماسكه ، أو أن تكون هذه الوحدة مصطنعة وهشة ومفروضة ، يعطى فيها الحق إلى فئة من المجتمع بالهيمنة على فئاته الأخرى ، وفي ذلك يتحول المجتمع إلى بؤرة للطغيان والفساد ، وليس من باب الغلو في شيء أن أي نظام لا ينهض على إرادة الشعب وطموحاته فمن دون شك لن يكون مصيره الا السقوط .
إننا لا نزعم في هذه القراءة المتواضعة إبراز كل معيقات ومثبطات بناء مستقبل عربي مشرق ، والتي لو أردنا أن نقوم بجرد أو مسح لها لما أسعفنا هذا الحيز ، وفي نفس الآن لا ندعي أننا نمتلك اقتراحات وأجوبة شافية أوسحرية لها ، كل ما ندعيه هو أننا وجهنا البوصلة شطر أهم المعوقات والعقبات و العراقيل ، التي إذا توافرت الإرادة الحقيقية ستكون الشعوب العربية أمام امتحان تهييء الشروط والمستلزمات القمينة لتجاوز الوضع الحالي بسلبياته ، إلى أفق أكثر رحابة وتقدما ، وذلك في إطار مشروع أخلاقي باسم الحياة ، وإذا كان الرجوع إلى الوراء غير ممكن ، فإن المسألة تقتضي كيفية إيجاد مكانة لهم في رحال الزمن إسوة مع بباقي المجتمعات والشعوب التي سبقتهم .ولا نجانب الصواب إذا قلنا أن المسألة تقتضي فيما تقتضيه ، والحالة هاته ، هو بناء مشروع متكامل تنخرط فيه كل فئات المجتمع ، حكام ومحكومين ، مشروع يحترم شروط الحياة الإيجابية ، ويمثل جسرا نحو مستقبل قوي ومتين ، وثانيا بنحت أساليب ومفاهيم أصيلة لمقاربة التحول الاجتماعي إلى المستقبل ، فلا بد إذن من ممارسة فكرية جديدة تنسجم مع هذه الغاية ، وبناء أنساق تفسيرية ، والانخراط في صيرورة هذا التحول ، والكشف عن مظاهرها باستيحاء أدوات تحليل بديلة واستراتيجيات تصب في مجرى واحد هو مجرى استشراف مستقبل أفضل للأمة العربية.